لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
|
أبو مالك العوضي
|
أقول لك جازمًا: لا تقل "أنا ضعيف الحفظ"! قد تتعجب وتقول لي: لماذا تقول ذلك؟ فأنا ضعيف الحفظ فعلا، بل لم أر أحدًا على ظهر الأرض أضعف حفظًا مني. فأنا أحاول وأحاول مرارًا وتكرارًا أن أحفظ شيئًا من الأشياء، فأخفق أحيانًا كثيرة، وحتى في الأحيان القليلة التي أنجح فيها، لا أجد الحفظ مستقرًّا في ذهني، بل سرعان ما يذهب أدراج الرياح، فأنساه تماما، وكأني لم أحفظه أصلا!! وقد يقول آخر: ما هذا الهراء الذي تقوله؟ لا يشك أحد أن هناك بعض الناس لديهم ذاكرة قوية، وبعضهم لديهم ذاكرة ضعيفة، فكيف تزعم أن المشكلة في الهمة لا في الذاكرة؟! وقد يقول ثالث: وما علاقة الهمة بالموضوع؟ العبرة بالمنحة الربانية التي يرزقها الله بعض عباده؛ ألم يكن الإمام البخاري يحفظ من مرة واحدة؟ ألم يقل الزهري: ما رأيت سوداء في بيضاء قط فنسيتها، إلى غير ذلك من الأقوال الشائعة عن السلف. ولكني أسارع فأجيب عن جميع هذه الاعتراضات بقولي: يا أخي الكريم، يا طالب العلم، لا ينبغي لك أن تقول: أنا ضعيف الحفظ؛ حتى لو فرضنا جزمًا وقطعًا أنك ضعيف الحفظ، فلا ينبغي لك أن تقول هذا مطلقا؛ لأسباب كثيرة: • منها أن هذا القول يشبه (الشماعة) التي يعلق عليها الإنسانُ ضعفه. • ومنها أن هذا القول لا يفيدك شيئًا إلا التثبيط والإحباط. • ومنها أن هذا القول يحملك على الإزراء بالحفظ والحفاظ. • ومنها أن هذا القول يحملك على الاقتناع بأشياء لا أساس لها من الصحة. • بل منها أن هذا القول نفسه قد يحملك على ترك طلب العلم من أصله. ثم أثني على ما سبق فأقول: يا من تقول هذا القول، ما يدريك أنك فعلا ضعيف الحفظ؟! وهل تعرف ما الحفظ؟ وما آليات الحفظ؟ وما وسائل تقوية الحفظ؟ وما وسائل تثبيت الحفظ؟ وهل حاولت أن تسير على نهج الحفاظ؟ وهل مشيت على الدرب؟ أم أنك استصعبت الطريقَ ورأيته طويلا فسوّلت لك نفسُك أن اتهام الحفظ هو أسهل الطرق لتحصيل العلم؟! هناك من الحفاظ من يكرر درسه ألف مرة حتى يحفظه؟! فبالله عليك هل حاولت مرة واحدة في حياتك أن تكرر شيئًا ألف مرة؟! وهناك أشياء لا بد أنك تحفظها، فلماذا لم تسأل نفسك: ما السبب في حفظي لهذه الأشياء دون غيرها؟ قد تقول: إن هذه الأشياء قد حفظتها في الصغر وأنا الآن كبير!!. وأسارع فأقول لك: من المعلومات الشائعة عند كثير من الناس أن الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، وأن الحفظ في الكبر كالنقش على الماء. ولا شك أن الجملة الأولى صحيحة، ولكن الكلام في الجملة الثانية! فهي باطلة تمامًا!! وأحسن حالها أن تكون وصفًا لحال الكبر عند كثير من الناس، وليست بيانًا لعلة ضعف الحفظ، فإن سبب ضعف الحفظ في الكبر هو إهمال هذه الملكة التي تولد مع الإنسان، وعند التأمل يظهر أن ذلك حال كل شيء؛ فإن كل شيء إذا ترك فإنه يضمر، ولذلك ترى الحافظ أيضًا إذا أهمل تدريب عقله على الذكاء والفهم يضعف فهمه وعقله، ويصير كأنه آلة للتسجيل فقط. ولا بد من الممارسة والاستمرار لكي يحافظ الإنسان على ما عنده من ملكات وقدرات ومهارات. • كان فلان الرياضي على لياقة بدنية عالية جدا، ولكنه صار سمينًا مترهلا ضعيفا بسبب إهمال الممارسة وترك التدريب، فلا تقل لي بربك إن السبب في ذلك هو أنه قد صار كبيرًا! • كان فلان العامل ذكيًّا في السنة الأولى الابتدائية، وأبدى نشاطًا عقليًّا ملحوظًا، إلا أنه ترك المدرسة ولم يكمل تعليمه، وأهمل تثقيف نفسه وتدريب عقله، فصار غبيًّا جاهلا لا يكاد يفقه شيئا، فلا تقل لي بالله عليك إن السبب في ذلك أنه صار كبيرًا! فالسبب الحقيقي وراء ضعف الذاكرة (عند الكبر) هو إهمالها وعدم صقلها؛ لأن كل شيء يضعف إذا ترك وأهمل كما هو معروف، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن لا يغفل عن ممارسة الحفظ وتقوية ذاكرته دائمًا وأبدًا، ومهما طال به العمر؛ لأن ذلك -فوق أنه يزيده علما وحفظا للجديد- يحافظ على ما كان قد حفظه قديمًا فلا يتطرق إليه النسيان إلا بصعوبة. فالمقصود أن طالب العلم لا يستغني عن تقوية ملكاته وقدراته جميعا؛ ومنها: • تقوية مهارة الحفظ • وتقوية مهارة الفهم • وتقوية سرعة البديهة • وتقوية التفكير والاستنباط • وتقوية مهارة قراءة ما بين السطور • وتقوية مهارة سرعة الكتابة • وتقوية مهارة سرعة القراءة • وتقوية مهارة التنظيم والترتيب وغير ذلك كثير، من المهارات المهمة جدًّا لطالب العلم، ولا يستغني عن معظمها، ولكن مع الأسف كثير من الناس لا يستطيعون السير في طرق متوازية لتقوية جميع هذه الملكات، فتراهم يؤثرون بعضها على بعض، إما جهلا بقيمة ما بقي، وإما إيثارًا للدعة والراحة! فعليك أن لا يمر بك يوم إلا وقد حفظت شيئًا جديدًا، وأيضًا فلا ينبغي أن تحفظ شيئًا إلا وتربطه ببعض كنت حفظته من قبل، ومن المفترض أن يكون ذلك تلقائيًّا، ولكنه أحيانًا يتخلف لسبب عارض. ومن عجائب الحفظ أن العقل يمكنه أيضًا أن يحتفظ بذكرياته وما حصل له يومًا بيوم!! وذلك إذا ارتبط ذلك عنده بمحفوظ، فلو فرضنا أنك حفظت كل يوم بيتًا وكررته طوال اليوم في مسيرك وذهابك وإيابك فإنك عند استذكار هذا البيت ستتذكر تلقائيًّا أنك مررت بالمكان الفلاني عند حفظ البيت، وأنك كنت تفعل كذا وكذا وقت حفظ هذا البيت، وأنه في هذا اليوم الذي حفظت فيه البيت حصل كذا وكذا. وكل هذه أشياء مجربة وليست بدعًا من القول. كما أن الحفظ المستمر يقوي الحافظة ويزيد من قدرتها على الحفظ، فتستطيع حينئذ أن تحفظ قدرًا أكبر في مدة أقل، وهذا أيضًا يقوي الحافظة مرة أخرى ويزيد من قدرتها، وهكذا حتى تستطيع أن تصل إلى قدرة عالية جدا في الحفظ. ولعل هذا هو التفسير القريب لما نراه ونسمع عنه من عجائب الحفاظ في القديم والحديث. والله تعالى أعلم. |
جزاكم الله خير الجزاء وجزاء الخير وجعلها في صحائف اعمالكم
ردحذف