مقدمة كتاب:
"معالم المذهب الحنبلي"
(ما لا يسع الحنبلي جهله)
للشيخ/ د. ذياب الغامدي
والذي سيصدر قريبًا
بإذن الله تعالى.
* * *
* * *
مَعَالِمُ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ
(مَا لا يَسَعُ الحَنْبَليَّ جَهْلُهُ)
تَألِيْفُ
الشَّيخ الدَكتُور
ذِيَابِ بنِ سَعْدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِديِّ
الطَّبْعَةُ الأوْلى
(1437)
* * *
* قَالَ تَعَالى: «يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ أمَنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله واليَوْمِ الأخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء: 59).
* قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُ في الدِّيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
* قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
* * *
* قَالَ ابنُ قَاضِي الجَبَلِ:
الصَّالِحِيَّةُ جَنَّةٌ * * * والصَّالِحُوْنَ بِهَا أقَامُوا
فعَلى الدِّيَارِ وأهْلِهَا * * * مِنِّي التَّحِيَّةُ والسَّلامُ
* وقَالَ الجَمَالُ يُوْسُفُ بنُ عَبْدِ الهَادِي:
باللهِ إنْ جُزْتَ الصَّوَالِحَ فَاقْرِهَا * * * مِنِّي السَّلامَ، ولا تَذُدْ عَنْ صَدْرِهَا
شَوْقِي يَزِيْدُ إلى مَحِلَّةِ أُنْسِهَا * * * والقَلْبُ مِنِّي دَائِمًا في ذِكْرِهَا
فالسَّهْمُ مِنْهَا قَدْ أصَابَ لمُهْجَتِي * * * والعَيْنُ تَجْرِي مُذْ غَدَتْ في نَهْرِهَا
والجَامِعُ المَشْهُوْرُ شَمْلي جَامِعًا * * * وبِهِ مَدَارُ الأُنْسِ صَبَّ بِنُعْرِهَا
والرَّوْضَةُ الفَيْحَاءُ لَيْسَ كمِثْلِهَا * * * وبِهَا الفُحُوْلُ وسَادَةٌ في قَعْرِهَا
* «وأهْلُ البِدَعِ في غَيْرِ الحَنْبَلِيَّةِ أكْثَرَ مِنْهُم في الحَنْبَلِيَّةِ بوُجُوْهٍ كَثِيْرَةٍ» ابنُ تَيْمِيَّةَ.
* «وهُم أهْلُ سُنَّةٍ، وأكْثَرُهُم حَنَابِلَةٌ، لا يَسْتَطِيعُ مُبْتَدِعٌ أنْ يَسْكُنَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ» ابنُ كَثِيْرٍ.
* «كُتُبُ المَذْهَبِ: دَلِيْلٌ لَكَ إلى فَهْمِ الدَّلِيْلِ.
والأخْذُ بالدَّلِيْلِ، وإنْ خَالَفَ رَأيَ صَاحِبِ المَذْهَبِ: هُوَ تَقْلِيْدٌ لَهُ في صُوْرَةِ تَرْكِ التَّقْلِيْدِ» بَكْرٌ أبو زَيْدٍ.
* «إنَّ المَذَاهِبَ الأرْبَعَةَ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ في مَجْمُوْعِهَا: عَامَّةَ فِقْهِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ الأئِمَّةِ الَّذِيْنَ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُم..
* «إنَّ المَذَاهِبَ الأرْبَعَةَ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ في مَجْمُوْعِهَا: عَامَّةَ فِقْهِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ الأئِمَّةِ الَّذِيْنَ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُم..
كَمَا أنَّهَا في جُمْلَتِهَا: تَتَكَامَلُ ولا تَتَفَاضَلُ، وتَتَظَافَرُ ولا تَتَنَافَرُ، وتَتَآلَفُ ولا تَتَخَالَفُ، وتَتَوَافَقُ ولا تَتَفَارَقُ، فَكُلُّهَا تَجْتَمِعُ على تَقْدِيْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ على آرَاءِ الرِّجَالِ واجْتِهَادَاتِهِم» المُؤلِّفُ.
الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، بَقَايَا مِنْ أهْلِ العِلْمِ، يَدْعُوْنَ مَنْ ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصْبِرُوْنَ مِنْهُم على الأذَى، يُحْيُوْنَ بكِتَابِ اللهِ المَوْتَى، ويُبَصِّرُوْنَ بنُوْرِ اللهِ أهْلَ العَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبْلِيْسَ قَدْ أحْيَوْهُ، وكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أحْسَنَ أثَرُهُم على النَّاسِ، وأقْبَحَ أثْرُ النَّاسِ عَلَيْهِم!
يَنْفُوْنَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَحْرِيْفَ الغَالِيْنَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْنَ، وتَأوِيْلَ الجَاهِلِيْنَ، الَّذِيْنَ عَقَدُوا ألوِيَةَ البِدْعَةِ، وأطْلَقُوا عِنَانَ الفِتْنَةِ، فَهُم مُخْتَلِفُوْنَ في الكِتَابِ، مُخَالِفُوْنَ للكِتَابِ، مُجْمِعُوْنَ على مُخَالَفَةِ الكِتَابِ، يَقُوْلُوْنَ على اللهِ، وفي اللهِ، وفي كِتَابِ اللهِ بغَيْرِ عِلمٍ، يَتَكَلَّمُوْنَ بالمُتَشَابِهِ مِنَ الكَلامِ، ويَخْدَعُوْنَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُوْنَ عَلَيْهِم، فنَعُوْذُ باللهِ مِنَ فِتَنِ المُضِلِّيْنِ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ، وعلى زَوْجَاتِهِ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِيْنَ، وآلِهِ الطَّيِّبِيْنَ الطَّاهِرِيْنَ، وأصْحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسِانٍ إلى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ بَاتَ لَدَى أهْلِ العِلْمِ كَافَّةً([1]): أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ المَرْحُوْمَةَ لم تَزَلْ في تَارِيْخِهَا العِلمِي والعَمَلي جَارِيَةً على الاتِّبَاعِ والسَّدَادِ مُنْذُ فَجْرِ الإسْلامِ إلى مَطْلَعِ القَرْنِ الرَّابِعِ!
حَيْثُ كَانَ النَّاسُ على الأمْرِ الأوَّلِ: يَسْألُوْنَ في دِيْنِهِم مَنْ يَشَاءُونَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّيْنَ الَّذِيْنَ يُقْتَدَى بِهِم في العِلمِ والإيْمَانِ، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي يَصْلُحُ الوَاحِدُ مِنْهُم أنْ يَكُوْنَ صَاحِبَ مَذْهَبٍ بنَفْسِهِ، لكِنْ يَأبَى اللهُ، ورَسُوْلُهُ، والمُؤمِنُوْنَ!
ومَا زَالَ ذَلِكَ العَهْدُ مُمْتَدًّا في القُرُوْنِ الفَاضِلَةِ ابْتِدَاءً بفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ومُرُوْرًا بالفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ في المَدِيْنَةِ، وانْتِهَاءً بالفُقَهَاءِ الأرْبَعَةِ، أصْحَابِ المَذَاهِبِ السُّنِّيَّةِ العَلِيَّةِ!
أقْصِدُ بِهِم: أبَا حَنِيْفَةَ في بَغْدَادَ، ومَالِكًا في المَدِيْنَةِ، والشَّافِعِيَّ في مِصْرَ، وأحْمَدَ في بَغْدَادَ، فَقَدْ أخَذَ الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ عَنْ أبي يُوْسُفَ تَلمِيْذِ أبي حَنِيْفَةَ، وأخَذَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وأخَذَ أحْمَدُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وأخَذَ الشَّافِعِيُّ عَنْ أحْمَدَ، فَهُم ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَأيْنَمَا تَوَلَّوْا فَأرْحَامُ العِلْمِ بَيْنَهُم مَنْشُوْرَةٌ.
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ سَارَ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ في رِكَابِ عُلَمَاءِ القُرُوْنِ الفَاضِلَةِ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ في مَنْهَجِ التَّلَقِّي والاسْتِدْلالِ، ومَا انْحَازَ وَاحِدٌ مِنْهُم عَنْ سُنَنِ الأوَّلِيْنَ، ومَا اتَّخَذَ أحَدُهُم لنَفْسِهِ مَذْهَبًا أبَدًا، فَضْلًا أنْ يَدْعُوَا النَّاسَ إلى تَقْلِيدِهِ!
وهَكَذَا مَضَى النَّاسُ على الأمْرِ الأوَّلِ، يَنْهَلُوْنَ مِنَ المَعِيْنِ الصَّافي، ويَرْتَعُوْنَ في المَهْيَعِ الضَّافي؛ حَتَّى إذَا قَلَّ العِلمُ وانْتَشَرَ الجَهْلُ، واتَّخَذَ أكْثَرُ النَّاسِ العِلمَ ورَاءَهُم ظِهْرِيًّا: قَامُوا والحَالَةُ هَذِهِ يَتَلَمَّسُوْنَ أهْلَ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّيْنَ، وفُقَهَاءَ المِلَّةِ والدِّيْنِ؛ كَيْ يَظْفَرُوا بشَيءٍ مِنْ عُلُوْمِهِم ومَآثِرِهِم، ولَو في زَوَايَا مِنْ مَجَالِسِ العِلمِ والتَّذْكِيْرِ.
ومَعَ هَذَا وذَاكَ؛ إلَّا إنَّ كَلِمَةً مِنَ اللهِ تَعَالى قَدْ سَبَقَتْ: ببَقَاءِ طَائِفَةٍ ظَاهِرَةٍ مَنْصُوْرَةٍ قَائِمَةٍ بحُجَّةِ اللهِ في أرْضِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.
فَكَانَ مِنْهُم: هَؤلاءِ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ وغَيْرُهُم، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي صَارَ لهؤُلاءِ الأئِمَّةِ مِنَ العِلمِ والفِقْهِ في دِيْنِ اللهِ مَا بَهَرَ العُقُوْلَ، وسَرَّ القُلُوْبَ، مَعَ مَا أكْرَمَهُمُ اللهُ تَعَالى مِنْ وُجُوْدِ أتْبَاعٍ لهُم مِنَ التَّلامِيْذِ الأخْيَارِ؛ حَيْثُ حَفِظُوا لَنَا عُلُوْمَهُم، فَرَوَوْهَا ودَوَّنُوْهَا في الدَّوَاوِيْنِ، ونَشَرُوْهَا وبَعَثُوْهَا في الخَافِقَيْنِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَبَبًا في إظْهَارِ هَؤُلاءِ الأئِمَّةِ وإشْهَارِهِم بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فعِنْدَهَا اجْتَمَعَ الطُّلَّابُ عَلَيْهِم لِبَدًا، والتَفّوا حَوْلَهُم كالعُنُقِ الوَاحِدِ.
ومَعَ هَذَا؛ فَقَدِ اسْتَوْعَبَتِ المَذَاهِبُ الأرْبَعَةُ في مَجْمُوْعِهَا: عَامَّةَ فِقْهِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ الأئِمَّةِ الَّذِيْنَ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُم: كالثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ شُبْرُمَةَ، واللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، وابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَريِّ.. وغَيْرِهِم كَثِيْرٌ.
ومَنْ تَغَيَّأ الحَقَّ وابْتَغَاهُ عِنْدَ هَذِهِ المَذَاهِبِ عَلِمَ أنَّهَا في جُمْلَتِهَا: تَتَكَامَلُ ولا تَتَفَاضَلُ، وتَتَظَافَرُ ولا تَتَنَافَرُ، وتَتَآلَفُ ولا تَتَخَالَفُ، وتَتَوَافَقُ ولا تَتَفَارَقُ، فَكُلُّهَا تَجْتَمِعُ على تَقْدِيْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ على آرَاءِ الرِّجَالِ واجْتِهَادَاتِهِم، فجَزَاهُمُ اللهُ عَنِ الاسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ.
وبِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ في «البَحْرِ المُحِيْطِ» (6/209):
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، بَقَايَا مِنْ أهْلِ العِلْمِ، يَدْعُوْنَ مَنْ ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصْبِرُوْنَ مِنْهُم على الأذَى، يُحْيُوْنَ بكِتَابِ اللهِ المَوْتَى، ويُبَصِّرُوْنَ بنُوْرِ اللهِ أهْلَ العَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبْلِيْسَ قَدْ أحْيَوْهُ، وكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أحْسَنَ أثَرُهُم على النَّاسِ، وأقْبَحَ أثْرُ النَّاسِ عَلَيْهِم!
يَنْفُوْنَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَحْرِيْفَ الغَالِيْنَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْنَ، وتَأوِيْلَ الجَاهِلِيْنَ، الَّذِيْنَ عَقَدُوا ألوِيَةَ البِدْعَةِ، وأطْلَقُوا عِنَانَ الفِتْنَةِ، فَهُم مُخْتَلِفُوْنَ في الكِتَابِ، مُخَالِفُوْنَ للكِتَابِ، مُجْمِعُوْنَ على مُخَالَفَةِ الكِتَابِ، يَقُوْلُوْنَ على اللهِ، وفي اللهِ، وفي كِتَابِ اللهِ بغَيْرِ عِلمٍ، يَتَكَلَّمُوْنَ بالمُتَشَابِهِ مِنَ الكَلامِ، ويَخْدَعُوْنَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُوْنَ عَلَيْهِم، فنَعُوْذُ باللهِ مِنَ فِتَنِ المُضِلِّيْنِ.
والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ، وعلى زَوْجَاتِهِ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِيْنَ، وآلِهِ الطَّيِّبِيْنَ الطَّاهِرِيْنَ، وأصْحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِيْنَ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسِانٍ إلى يَوْمِ الدِّيْنِ.
* * *
أمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ بَاتَ لَدَى أهْلِ العِلْمِ كَافَّةً([1]): أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ المَرْحُوْمَةَ لم تَزَلْ في تَارِيْخِهَا العِلمِي والعَمَلي جَارِيَةً على الاتِّبَاعِ والسَّدَادِ مُنْذُ فَجْرِ الإسْلامِ إلى مَطْلَعِ القَرْنِ الرَّابِعِ!
حَيْثُ كَانَ النَّاسُ على الأمْرِ الأوَّلِ: يَسْألُوْنَ في دِيْنِهِم مَنْ يَشَاءُونَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّيْنَ الَّذِيْنَ يُقْتَدَى بِهِم في العِلمِ والإيْمَانِ، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي يَصْلُحُ الوَاحِدُ مِنْهُم أنْ يَكُوْنَ صَاحِبَ مَذْهَبٍ بنَفْسِهِ، لكِنْ يَأبَى اللهُ، ورَسُوْلُهُ، والمُؤمِنُوْنَ!
ومَا زَالَ ذَلِكَ العَهْدُ مُمْتَدًّا في القُرُوْنِ الفَاضِلَةِ ابْتِدَاءً بفُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ومُرُوْرًا بالفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ في المَدِيْنَةِ، وانْتِهَاءً بالفُقَهَاءِ الأرْبَعَةِ، أصْحَابِ المَذَاهِبِ السُّنِّيَّةِ العَلِيَّةِ!
أقْصِدُ بِهِم: أبَا حَنِيْفَةَ في بَغْدَادَ، ومَالِكًا في المَدِيْنَةِ، والشَّافِعِيَّ في مِصْرَ، وأحْمَدَ في بَغْدَادَ، فَقَدْ أخَذَ الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ عَنْ أبي يُوْسُفَ تَلمِيْذِ أبي حَنِيْفَةَ، وأخَذَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وأخَذَ أحْمَدُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وأخَذَ الشَّافِعِيُّ عَنْ أحْمَدَ، فَهُم ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَأيْنَمَا تَوَلَّوْا فَأرْحَامُ العِلْمِ بَيْنَهُم مَنْشُوْرَةٌ.
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ سَارَ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ في رِكَابِ عُلَمَاءِ القُرُوْنِ الفَاضِلَةِ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ في مَنْهَجِ التَّلَقِّي والاسْتِدْلالِ، ومَا انْحَازَ وَاحِدٌ مِنْهُم عَنْ سُنَنِ الأوَّلِيْنَ، ومَا اتَّخَذَ أحَدُهُم لنَفْسِهِ مَذْهَبًا أبَدًا، فَضْلًا أنْ يَدْعُوَا النَّاسَ إلى تَقْلِيدِهِ!
* * *
وهَكَذَا مَضَى النَّاسُ على الأمْرِ الأوَّلِ، يَنْهَلُوْنَ مِنَ المَعِيْنِ الصَّافي، ويَرْتَعُوْنَ في المَهْيَعِ الضَّافي؛ حَتَّى إذَا قَلَّ العِلمُ وانْتَشَرَ الجَهْلُ، واتَّخَذَ أكْثَرُ النَّاسِ العِلمَ ورَاءَهُم ظِهْرِيًّا: قَامُوا والحَالَةُ هَذِهِ يَتَلَمَّسُوْنَ أهْلَ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّيْنَ، وفُقَهَاءَ المِلَّةِ والدِّيْنِ؛ كَيْ يَظْفَرُوا بشَيءٍ مِنْ عُلُوْمِهِم ومَآثِرِهِم، ولَو في زَوَايَا مِنْ مَجَالِسِ العِلمِ والتَّذْكِيْرِ.
ومَعَ هَذَا وذَاكَ؛ إلَّا إنَّ كَلِمَةً مِنَ اللهِ تَعَالى قَدْ سَبَقَتْ: ببَقَاءِ طَائِفَةٍ ظَاهِرَةٍ مَنْصُوْرَةٍ قَائِمَةٍ بحُجَّةِ اللهِ في أرْضِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.
فَكَانَ مِنْهُم: هَؤلاءِ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ وغَيْرُهُم، وذَلِكَ في الوَقْتِ الَّذِي صَارَ لهؤُلاءِ الأئِمَّةِ مِنَ العِلمِ والفِقْهِ في دِيْنِ اللهِ مَا بَهَرَ العُقُوْلَ، وسَرَّ القُلُوْبَ، مَعَ مَا أكْرَمَهُمُ اللهُ تَعَالى مِنْ وُجُوْدِ أتْبَاعٍ لهُم مِنَ التَّلامِيْذِ الأخْيَارِ؛ حَيْثُ حَفِظُوا لَنَا عُلُوْمَهُم، فَرَوَوْهَا ودَوَّنُوْهَا في الدَّوَاوِيْنِ، ونَشَرُوْهَا وبَعَثُوْهَا في الخَافِقَيْنِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ سَبَبًا في إظْهَارِ هَؤُلاءِ الأئِمَّةِ وإشْهَارِهِم بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، فعِنْدَهَا اجْتَمَعَ الطُّلَّابُ عَلَيْهِم لِبَدًا، والتَفّوا حَوْلَهُم كالعُنُقِ الوَاحِدِ.
* * *
ومَعَ هَذَا؛ فَقَدِ اسْتَوْعَبَتِ المَذَاهِبُ الأرْبَعَةُ في مَجْمُوْعِهَا: عَامَّةَ فِقْهِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ بَعْدَهُم مِنَ الأئِمَّةِ الَّذِيْنَ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُم: كالثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، وأبي ثَوْرٍ، وابنِ شُبْرُمَةَ، واللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ، وابنِ جَرِيْرٍ الطَّبَريِّ.. وغَيْرِهِم كَثِيْرٌ.
ومَنْ تَغَيَّأ الحَقَّ وابْتَغَاهُ عِنْدَ هَذِهِ المَذَاهِبِ عَلِمَ أنَّهَا في جُمْلَتِهَا: تَتَكَامَلُ ولا تَتَفَاضَلُ، وتَتَظَافَرُ ولا تَتَنَافَرُ، وتَتَآلَفُ ولا تَتَخَالَفُ، وتَتَوَافَقُ ولا تَتَفَارَقُ، فَكُلُّهَا تَجْتَمِعُ على تَقْدِيْمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ على آرَاءِ الرِّجَالِ واجْتِهَادَاتِهِم، فجَزَاهُمُ اللهُ عَنِ الاسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ.
وبِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ في «البَحْرِ المُحِيْطِ» (6/209):
«وقَدْ وَقَعَ الاتِّفَاقُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ على أنَّ الحَقَّ مُنْحَصِرٌ في هَذِهِ المَذَاهِبِ ـ أيْ: المَذَاهِبِ الأرْبَعِةِ ـ، وحَيْنَئِذٍ، فَلا يَجُوْزُ العَمَلُ بغَيْرِهَا».
قُلْتُ: مَا قَالَهُ البَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «أنَّ الحَقَّ مُنْحَصِرٌ في المَذَاهِبِ الأرْبَعِةِ، وعَلَيْهِ؛ فَلا يَجُوْزُ العَمَلُ بغَيْرِهَا»، هُوَ قَوْلٌ لَيْسَ على إطْلاقِهِ، لأنَّ العِبْرَةَ بالدَّلِيْلِ الشَّرْعِيِّ، لا بالمَذْهَبِ، فحَيْثُ صَحَّ الدَّلِيْلُ وَجَبَ العَمَلُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ في هَذِهِ المَذَاهِبِ، أو في غَيْرِهَا، وهَذَا مِمَّا أجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ.
وهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ في «إعْلامِ المُوَقِّعِيْنَ» (2/302) عَنِ الإمَامِ الشَّافِعيِّ رَحِمَهُ الله:
قُلْتُ: مَا قَالَهُ البَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «أنَّ الحَقَّ مُنْحَصِرٌ في المَذَاهِبِ الأرْبَعِةِ، وعَلَيْهِ؛ فَلا يَجُوْزُ العَمَلُ بغَيْرِهَا»، هُوَ قَوْلٌ لَيْسَ على إطْلاقِهِ، لأنَّ العِبْرَةَ بالدَّلِيْلِ الشَّرْعِيِّ، لا بالمَذْهَبِ، فحَيْثُ صَحَّ الدَّلِيْلُ وَجَبَ العَمَلُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ في هَذِهِ المَذَاهِبِ، أو في غَيْرِهَا، وهَذَا مِمَّا أجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُوْنَ.
وهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ في «إعْلامِ المُوَقِّعِيْنَ» (2/302) عَنِ الإمَامِ الشَّافِعيِّ رَحِمَهُ الله:
«أجْمَعَ المُسْلِمُوْنَ على أنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُوْلِ صلى الله عليه وسلم؛ لم يَحِلْ لَهُ أنْ يَدَعَهَا لقَوْلِ أحَدٍ».
ونَحْنُ مَعَ هَذَا؛ نَعْتَذِرُ للبَدْرِ الزَّرْكَشِيِّ فِيْمَا ذَهَبَ إلَيْهِ، وذَلِكَ باعْتِبَارِ أنَّ دَلِيْلَ الشَّاهِدِ والحَالِ، وأنَّ دَلالَةَ الاسْتِقْرَاءِ والمَآلِ: لَهُوَ دَلِيْلٌ قَائِمٌ على أنَّ الحَقَّ لم يَزَلْ مُنْحَصِرًا في هَذِهِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ مُنْذُ وُجِدَتْ إلى زَمَانِهِ، بَلْ إلى زَمَانِنَا، بَلْ لا نَعْلَمُ مَسْألَةً فِقْهِيَّةً مُعْتَبَرَةً ذَاتَ دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ أنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مُجْمُوْعِ رِوَايَاتِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ، إلَّا مَا تَخَرَّجَ مِنْ مَسَائِلِ النَّوَازِلِ، وبِهَذَا الاعْتِبَارِ يَتَوَجَّهُ كُلامُ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
فَكَانَ مِنْ أخِرِ هَؤلاءِ الأئِمَّةِ زَمَنًا، وأوْسَعِهِم رِوَايَةً وأثَرًا: إمَامُ أهَل السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ، صَاحِبُ «دِيْوَانِ الإسْلامِ» بِلا مُنَازِعٍ، أقْصِدُ بِهِ: «المُسْنَدَ الأحْمَدِيَّ»!
فهُوَ بحَقٍّ: إمَامٌ في الدِّيْنِ، وعَالِمٌ بالشَّرْعِ المُبِيْنِ، ومُجْتَهِدٌ في مَعْرِفَةِ الوَحْيَيْنِ؛ حَيْثُ احْتَوَشَهُ الطُّلَّابُ مِنْ سَائِرِ البِقَاعِ، وقَصَدَهُ المُسْتَفْتُوْنَ مِنْ كُلِّ الأصْقَاعِ.
حَيْثُ حُقِّقَتْ أُصُوْلُ مَذْهَبِهِ، وقُرِّرَتْ قَوَاعِدُ فِقْهِهِ، وحُرِّرَتْ اخْتِيَارَاتُهُ؛ حَتَّى فَاقَ أقْرَانَهُ، ولم يُدْرِكْ أحَدٌ بَعْدَهُ مَكَانَهُ، فَظَهَرَ للعَالَمِيْنَ مَنْزَعُ فِقْهِهِ، ومَوْضِعُ إيْمَانِهِ!
ومِنْ هُنَا دَوَّنَ أصْحَابُهُ عَنْهُ المَسَائِلَ والدَّلائِلَ، وتَابَعُوْهُ في التَّلَقِّي والاسْتِدْلالِ، فعِنْدَهَا اعْتَنَوْا بجَمْعِ أقَوَالِهِ وأفْعَالِهِ، غَايَةَ العِنَايَةِ، فوَطَّئُوا عَقِبَهُ، ومَهَّدُوا مَذْهَبَهُ في الفِقْهِ، والأُصُوْلِ، والاعْتِقَادِ، وسَائِرِ أبْوَابِ الدِّيْنِ، كُلُّ هَذَا بالإسْنَادِ والتَّلَقِّي، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، فَصَارَ طُلَّابُهُ بِهَذَا المَسْلَكِ أعْلامًا في زَمَانِهِم، ومَنَارَاتٍ لعِلمِ شَيْخِهِم، ومُؤسِّسِ مَدْرَسَتِهِم: «مَدْرَسَةِ فِقْهِ الدَّلِيْلِ».
فعِنْدَئِذٍ تَكَوَّنَ «المَذْهَبُ الحَنْبَليُّ» مِنْ مَنْظُوْمَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ، لا يَقْتَصِرُ على فِقْهِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَحَسْبُ، بَلْ تَمَثَّلَ ظُهُوْرُهُ في مَجْمُوْعَةِ فِقْهِيَّاتِ الإمَامِ وأصْحَابِهِ مِنْ تَلامِذَتِهِ، ومِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُم مِنْ أصْحَابِ الأوْجُهِ والتَّخَارِيْجِ مِمَّنْ جَاءَ ذِكْرُهُم في طَبَقَاتِ المُجْتَهِدِيْنَ.
فمِنْ خِلالِ هَذِهِ المَنْظُوْمَةِ العِلمِيَّةِ الفِقْهِيَّةِ: تَكَوَّنَ مَا يُسَمَّى بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» اصْطِلاحًا، وذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَوَى المَذْهَبُ على سُوْقِهِ، وظَهَرَ في العَالَمِيْنَ مِنْ تَفَوُّقِهِ مَا شَهِدَ لَهُ القَاصِي والدَّاني.
فمِنْ هُنَا؛ صَارَ «المَذْهَبُ الحَنْبَليُّ» آيَةً للنُّظَّارِ والأنْظَارِ، ومَطْلَبًا لعُلَمَاءِ الأمْصَارِ والأعْصَارِ؛ حَتَّى أضْحَى الانْتِسَابُ إلَيْهِ: انْتِسَابًا للسُّنَّةِ والأثَرِ، وسَلامَةِ المُعْتَقَدِ، ويَكَأنَّهُ انْتِسَابٌ لفِقْهِ الدَّلِيْلِ، وفَقَاهَةِ التَّعْلِيْلِ، ولا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا مُكَابِرٌ أو جَاهِلٌ!
لأجْلِ هَذَا وغَيْرِهِ مِمَّا مَرَّ خَبَرُهُ؛ فَقَدْ تَطَاوَعَتْ نَفْسِي، ورَاضَتْ أقْلامِي ـ بَعْدَ تَوْفِيْقِ اللهِ ـ أنْ أرْقُمَ كِتَابًا مًخْتَصَرًا يَسْتَعِيْنُ بِهِ كُلُّ مَنْ رَامَ التَّعَرُّفَ على «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، ولَوْ بَطَرَفٍ مِنْ خَبَرِ المَذْهَبِ، وأخْبَارِ الحَنَابِلَةِ، واللهُ هُوَ المُعِيْنُ والمُوَفِّقُ.
فَدُوْنَكَ يا طَالِبَ العِلْمِ: مَعَالِمَ حَنْبَلِيَّةً لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كُلُّ طَالِبِ عِلمٍ حَنْبَليٍّ، نَثَرْتُهَا على وَجْهِ الإيْجَازِ والاخْتِصَارِ؛ كَيْ أُقَرِّبَ بِهَا: تَارِيْخَ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ، وأُصُوْلَهُ الفِقْهِيَّةَ، وأعْلامَهُ الزَّكِيَّةَ، ومُؤلَّفَاتِهِ العِلمِيَّةَ، وشَيئًا مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِ الرَّمْزِيَّةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لا يَسَعُ جَهْلُهَا، كُلُّ ذَلِكَ بسَبِيْلِ التَّيْسِيْرِ والتَّقْرِيْبِ، كَمَا سَتَرَاهُ إنْ شَاءَ اللهُ.
وكُلُّ الحَنَابِلَةِ يَعْلَمُوْنَ: أنَّ «المَذْهَبَ الحَنْبَليَّ» قَدْ خُدِمَ خِدْمَةً لا مَثِيْلَ لهَا، مَا بَيْنَ رَصْدٍ لتَارِيْخِهِ، وتَعْرِيْفٍ لأعْلامِهِ، وتَوْضِيْحٍ لمُصْطَلَحَاتِهِ... ابْتِدَاءً بِمَا جَاءَ ذِكْرُهُ في أوَائِلِ وخَوَاتِمِ بَعْضِ أُمَّاتِ كُتُبِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ، ككِتَابِ: «تَهْذِيْبِ الأجْوِبَةِ» لابنِ حَامِدٍ، و«الفُرُوْعِ» لابنِ مُفْلِحٍ، و«الإنْصَافِ» للمَرْدَاوِيِّ، و«المُنْتَهَى» لابنِ النَّجَّارِ، وغَيْرِهِم.
ومُرُوْرًا بكِتَابِ: «المَدْخَلِ» لابنِ بَدْرَانَ، و«مَفَاتِيْحِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للثَّقَفِيِّ، وغَيْرِهِم.
وانْتِهَاءً بكِتَابِ: «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لبَكْرٍ أبو زَيْدٍ([2])، و«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للتُّركيِّ، و«المَنْهَجِ الفِقْهِيِّ العَامِّ لعُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ» لابنِ دُهِيْشٍ، وكَثِيْرٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ بَعْضِ المُحَقِّقِيْنَ لكُتُبِ الحَنَابِلَةِ الفِقْهِيَّةِ والأُصُوْلِيَّةِ، وغَيْرِهَا.
وهَكَذَا لم تَزَل عَجَلَةُ التَّألِيْفِ في تَعْرِيْفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» جَارِيَةً مُذَلَّلَةً بَيْنَ الأصْحَابِ، يَتَلَقَّفُهَا الأصَاغِرُ عَنِ الأكَابِرِ جِيْلًا بَعْدَ جِيْلٍ دُوْنَ سَآمَةٍ، أو كَلَلٍ([3])!
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ أحْبَبْتُ أنْ أضْرِبَ بسَهْمٍ في بَيَانِ «مَعَالِمِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» على وَجْهِ الاخْتِصَارِ، ومَنْ أرَادَهَا كَامِلَةً تَامَّةً؛ فليَنْظُرْهَا في الكُتُبِ المَذْكُوْرَةِ آنِفًا، هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ تَحْقِيْقَ مَعْرِفَةِ «مَدَاخِلِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ قَدْ بَعُدَ مَنَالُهُ، وعَسُرَ نَوَالُهُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ مُرِيْدِي «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»؛ لكَثْرَةِ مُصَنَّفَاتِهِ، وطُوْلِ مَبَاحِثِهِ، الأمْرُ الَّذِي لا يُطِيْقُهُ إلَّا مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ، وسَمَتْ إرَادَتُهُ مِمَّنْ قَلَّ وُجُوْدُهُم في أبْنَاءِ زَمَانِنَا، إلَّا في غُبَّارَاتٍ حَنْبَلِيَّةٍ قَلِيْلَةٍ لم تَزَلْ آخِذَةً بعُرَى مَنَاهِجِ المَذْهَبِ فِقْهًا ومُصْطَلَحًا!
فمِنْ هُنَا رَأيْتُ مِنْ تَمَامِ النَّصِيْحَة الإيْمَانِيَّةِ، وإتْمَامِ الصُّحْبَةِ الحَنْبَلِيَّةِ أنْ أمُدَّ حَبْلَ التَّعْرِيْفِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» بأتْبَاعِهِ المُبْتَدِئِيْنَ أمْثَالي، مِمَّنْ ضَاقَ وَقْتُهُم، أو ضَعُفَ بَحْثُهُم، كُلُّ ذَلِكَ لتَبْقَى مَعَالِمُ المَذْهَبِ مُمْتَدَّةَ البِسَاطِ، مُذَلَّلَةَ الفِجَاجِ والمَسَالِكِ، ولَوْ بِشَيءٍ مِنَ المَعَالِمِ الَّتِي لا يَسَعُ الحَنْبَليَّ جَهْلُهَا، ابْتِدَاءً بنُشُوْءِ المَذْهَبِ إلى وَقْتِنَا الحَاضِرِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ مَعَالِمَ وصُوًى عَامَّةٍ، أحْسِبُهَا تُقَرِّبُ البَعِيْدَ، وتُهَذِّبَ العَصِيْبَ، مِمَّا لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الحَنْبَليُّ المُنْتَهِي، والمُتَمَذْهِبُ المُبْتَدِئ، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* فَكَانَ مِنْ دَوَاعِي اخْتِصَارِي لمَعَارِفِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، مَا يَلي:
أوَّلًا: أنَّ الكُتُبَ الَّتِي تَكَلَّمَتْ عَنِ التَّعْرِيْفِ بالمَذْهَبِ الحَنْبَليِّ كَثِيْرَةٌ، مَا يَعْسُرُ الإحَاطَةُ بِهَا، ويَضِيْقُ الوَقْتُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا، مِمَّا كَانَ سَبَبًا في انْصِرَافِ كَثِيْرٍ مِنْ شُدَاةِ الحَنَابِلَةِ عَنِ الوُقُوْفِ على مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»!
ثَانِيًا: أنَّ في الاخْتِصَارِ: تَقْرِيْبًا وتَهْذِيْبًا لمُطَوَّلاتِ الكُتُبِ المُعَرِّفَةِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، ولاسِيَّما أنَّ كَثِيْرًا مِنْ مَعَارِفِ المَذْهَبِ مَخْبُوْءَةٌ في مَثَاني مَبْسُوْطَاتِ الكُتُبِ الكِبَارِ الَّتِي لا يُحْسِنُهَا ـ غَالِبَا ـ إلَّا كِبَارُ الحَنَابِلَةِ مِمَّنْ بَلَغُوْا شَأوًا في المَذْهَبِ والتَّمَذْهُبِ على حَدٍّ سَوَاءٍ.
كَمَا في الاخْتِصَارِ أيْضًا: تَسْهِيْلًا لِمَا يَصْعُبُ حِفْظُهُ، أو يَعْسُرُ إدْرَاكُهُ مِنْ مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ».
لأجْلِ هَذَا؛ كَانَ في تَقْرِيْبِ مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» تَحْتَ مَعْلَمَةٍ جَامِعَةٍ: بُغْيَةٌ لطُلَّابِ الحَنَابِلَةِ بِخَاصَّةٍ، ولغَيْرِهِم بعَامَّةٍ مِمَّنْ رَامَ التَّعَرُّفَ على مَذْهَبِ السَّادَةِ الحَنَابِلَةِ، ولَو بِشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ.
فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ المُسَمَّيَاتِ العِلمِيَّةِ، والأطَارِيْحِ الفِقْهِيَّةِ: أنْ رَسَمْتُ للكِتَابِ عِنْوَانًا بَدِيْعًا، قَدْ رَاضَ مُسَمَّاهُ، ولَاحَ مَعْنَاهُ، جَامِعًا لمَضَامِيْنِ مَذْهَبِنَا الحَنْبَليِّ، تَحْتَ عِنْوَانِ:
ونَحْنُ مَعَ هَذَا؛ نَعْتَذِرُ للبَدْرِ الزَّرْكَشِيِّ فِيْمَا ذَهَبَ إلَيْهِ، وذَلِكَ باعْتِبَارِ أنَّ دَلِيْلَ الشَّاهِدِ والحَالِ، وأنَّ دَلالَةَ الاسْتِقْرَاءِ والمَآلِ: لَهُوَ دَلِيْلٌ قَائِمٌ على أنَّ الحَقَّ لم يَزَلْ مُنْحَصِرًا في هَذِهِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ مُنْذُ وُجِدَتْ إلى زَمَانِهِ، بَلْ إلى زَمَانِنَا، بَلْ لا نَعْلَمُ مَسْألَةً فِقْهِيَّةً مُعْتَبَرَةً ذَاتَ دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ أنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مُجْمُوْعِ رِوَايَاتِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ، إلَّا مَا تَخَرَّجَ مِنْ مَسَائِلِ النَّوَازِلِ، وبِهَذَا الاعْتِبَارِ يَتَوَجَّهُ كُلامُ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
* * *
فهُوَ بحَقٍّ: إمَامٌ في الدِّيْنِ، وعَالِمٌ بالشَّرْعِ المُبِيْنِ، ومُجْتَهِدٌ في مَعْرِفَةِ الوَحْيَيْنِ؛ حَيْثُ احْتَوَشَهُ الطُّلَّابُ مِنْ سَائِرِ البِقَاعِ، وقَصَدَهُ المُسْتَفْتُوْنَ مِنْ كُلِّ الأصْقَاعِ.
حَيْثُ حُقِّقَتْ أُصُوْلُ مَذْهَبِهِ، وقُرِّرَتْ قَوَاعِدُ فِقْهِهِ، وحُرِّرَتْ اخْتِيَارَاتُهُ؛ حَتَّى فَاقَ أقْرَانَهُ، ولم يُدْرِكْ أحَدٌ بَعْدَهُ مَكَانَهُ، فَظَهَرَ للعَالَمِيْنَ مَنْزَعُ فِقْهِهِ، ومَوْضِعُ إيْمَانِهِ!
ومِنْ هُنَا دَوَّنَ أصْحَابُهُ عَنْهُ المَسَائِلَ والدَّلائِلَ، وتَابَعُوْهُ في التَّلَقِّي والاسْتِدْلالِ، فعِنْدَهَا اعْتَنَوْا بجَمْعِ أقَوَالِهِ وأفْعَالِهِ، غَايَةَ العِنَايَةِ، فوَطَّئُوا عَقِبَهُ، ومَهَّدُوا مَذْهَبَهُ في الفِقْهِ، والأُصُوْلِ، والاعْتِقَادِ، وسَائِرِ أبْوَابِ الدِّيْنِ، كُلُّ هَذَا بالإسْنَادِ والتَّلَقِّي، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، فَصَارَ طُلَّابُهُ بِهَذَا المَسْلَكِ أعْلامًا في زَمَانِهِم، ومَنَارَاتٍ لعِلمِ شَيْخِهِم، ومُؤسِّسِ مَدْرَسَتِهِم: «مَدْرَسَةِ فِقْهِ الدَّلِيْلِ».
فعِنْدَئِذٍ تَكَوَّنَ «المَذْهَبُ الحَنْبَليُّ» مِنْ مَنْظُوْمَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ، لا يَقْتَصِرُ على فِقْهِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَحَسْبُ، بَلْ تَمَثَّلَ ظُهُوْرُهُ في مَجْمُوْعَةِ فِقْهِيَّاتِ الإمَامِ وأصْحَابِهِ مِنْ تَلامِذَتِهِ، ومِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُم مِنْ أصْحَابِ الأوْجُهِ والتَّخَارِيْجِ مِمَّنْ جَاءَ ذِكْرُهُم في طَبَقَاتِ المُجْتَهِدِيْنَ.
فمِنْ خِلالِ هَذِهِ المَنْظُوْمَةِ العِلمِيَّةِ الفِقْهِيَّةِ: تَكَوَّنَ مَا يُسَمَّى بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» اصْطِلاحًا، وذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَوَى المَذْهَبُ على سُوْقِهِ، وظَهَرَ في العَالَمِيْنَ مِنْ تَفَوُّقِهِ مَا شَهِدَ لَهُ القَاصِي والدَّاني.
فمِنْ هُنَا؛ صَارَ «المَذْهَبُ الحَنْبَليُّ» آيَةً للنُّظَّارِ والأنْظَارِ، ومَطْلَبًا لعُلَمَاءِ الأمْصَارِ والأعْصَارِ؛ حَتَّى أضْحَى الانْتِسَابُ إلَيْهِ: انْتِسَابًا للسُّنَّةِ والأثَرِ، وسَلامَةِ المُعْتَقَدِ، ويَكَأنَّهُ انْتِسَابٌ لفِقْهِ الدَّلِيْلِ، وفَقَاهَةِ التَّعْلِيْلِ، ولا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا مُكَابِرٌ أو جَاهِلٌ!
لأجْلِ هَذَا وغَيْرِهِ مِمَّا مَرَّ خَبَرُهُ؛ فَقَدْ تَطَاوَعَتْ نَفْسِي، ورَاضَتْ أقْلامِي ـ بَعْدَ تَوْفِيْقِ اللهِ ـ أنْ أرْقُمَ كِتَابًا مًخْتَصَرًا يَسْتَعِيْنُ بِهِ كُلُّ مَنْ رَامَ التَّعَرُّفَ على «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، ولَوْ بَطَرَفٍ مِنْ خَبَرِ المَذْهَبِ، وأخْبَارِ الحَنَابِلَةِ، واللهُ هُوَ المُعِيْنُ والمُوَفِّقُ.
* * *
فَدُوْنَكَ يا طَالِبَ العِلْمِ: مَعَالِمَ حَنْبَلِيَّةً لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كُلُّ طَالِبِ عِلمٍ حَنْبَليٍّ، نَثَرْتُهَا على وَجْهِ الإيْجَازِ والاخْتِصَارِ؛ كَيْ أُقَرِّبَ بِهَا: تَارِيْخَ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ، وأُصُوْلَهُ الفِقْهِيَّةَ، وأعْلامَهُ الزَّكِيَّةَ، ومُؤلَّفَاتِهِ العِلمِيَّةَ، وشَيئًا مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِ الرَّمْزِيَّةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لا يَسَعُ جَهْلُهَا، كُلُّ ذَلِكَ بسَبِيْلِ التَّيْسِيْرِ والتَّقْرِيْبِ، كَمَا سَتَرَاهُ إنْ شَاءَ اللهُ.
وكُلُّ الحَنَابِلَةِ يَعْلَمُوْنَ: أنَّ «المَذْهَبَ الحَنْبَليَّ» قَدْ خُدِمَ خِدْمَةً لا مَثِيْلَ لهَا، مَا بَيْنَ رَصْدٍ لتَارِيْخِهِ، وتَعْرِيْفٍ لأعْلامِهِ، وتَوْضِيْحٍ لمُصْطَلَحَاتِهِ... ابْتِدَاءً بِمَا جَاءَ ذِكْرُهُ في أوَائِلِ وخَوَاتِمِ بَعْضِ أُمَّاتِ كُتُبِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ، ككِتَابِ: «تَهْذِيْبِ الأجْوِبَةِ» لابنِ حَامِدٍ، و«الفُرُوْعِ» لابنِ مُفْلِحٍ، و«الإنْصَافِ» للمَرْدَاوِيِّ، و«المُنْتَهَى» لابنِ النَّجَّارِ، وغَيْرِهِم.
ومُرُوْرًا بكِتَابِ: «المَدْخَلِ» لابنِ بَدْرَانَ، و«مَفَاتِيْحِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للثَّقَفِيِّ، وغَيْرِهِم.
وانْتِهَاءً بكِتَابِ: «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لبَكْرٍ أبو زَيْدٍ([2])، و«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للتُّركيِّ، و«المَنْهَجِ الفِقْهِيِّ العَامِّ لعُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ» لابنِ دُهِيْشٍ، وكَثِيْرٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ بَعْضِ المُحَقِّقِيْنَ لكُتُبِ الحَنَابِلَةِ الفِقْهِيَّةِ والأُصُوْلِيَّةِ، وغَيْرِهَا.
وهَكَذَا لم تَزَل عَجَلَةُ التَّألِيْفِ في تَعْرِيْفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» جَارِيَةً مُذَلَّلَةً بَيْنَ الأصْحَابِ، يَتَلَقَّفُهَا الأصَاغِرُ عَنِ الأكَابِرِ جِيْلًا بَعْدَ جِيْلٍ دُوْنَ سَآمَةٍ، أو كَلَلٍ([3])!
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ أحْبَبْتُ أنْ أضْرِبَ بسَهْمٍ في بَيَانِ «مَعَالِمِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» على وَجْهِ الاخْتِصَارِ، ومَنْ أرَادَهَا كَامِلَةً تَامَّةً؛ فليَنْظُرْهَا في الكُتُبِ المَذْكُوْرَةِ آنِفًا، هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ تَحْقِيْقَ مَعْرِفَةِ «مَدَاخِلِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ قَدْ بَعُدَ مَنَالُهُ، وعَسُرَ نَوَالُهُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ مُرِيْدِي «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»؛ لكَثْرَةِ مُصَنَّفَاتِهِ، وطُوْلِ مَبَاحِثِهِ، الأمْرُ الَّذِي لا يُطِيْقُهُ إلَّا مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ، وسَمَتْ إرَادَتُهُ مِمَّنْ قَلَّ وُجُوْدُهُم في أبْنَاءِ زَمَانِنَا، إلَّا في غُبَّارَاتٍ حَنْبَلِيَّةٍ قَلِيْلَةٍ لم تَزَلْ آخِذَةً بعُرَى مَنَاهِجِ المَذْهَبِ فِقْهًا ومُصْطَلَحًا!
فمِنْ هُنَا رَأيْتُ مِنْ تَمَامِ النَّصِيْحَة الإيْمَانِيَّةِ، وإتْمَامِ الصُّحْبَةِ الحَنْبَلِيَّةِ أنْ أمُدَّ حَبْلَ التَّعْرِيْفِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» بأتْبَاعِهِ المُبْتَدِئِيْنَ أمْثَالي، مِمَّنْ ضَاقَ وَقْتُهُم، أو ضَعُفَ بَحْثُهُم، كُلُّ ذَلِكَ لتَبْقَى مَعَالِمُ المَذْهَبِ مُمْتَدَّةَ البِسَاطِ، مُذَلَّلَةَ الفِجَاجِ والمَسَالِكِ، ولَوْ بِشَيءٍ مِنَ المَعَالِمِ الَّتِي لا يَسَعُ الحَنْبَليَّ جَهْلُهَا، ابْتِدَاءً بنُشُوْءِ المَذْهَبِ إلى وَقْتِنَا الحَاضِرِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ مَعَالِمَ وصُوًى عَامَّةٍ، أحْسِبُهَا تُقَرِّبُ البَعِيْدَ، وتُهَذِّبَ العَصِيْبَ، مِمَّا لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الحَنْبَليُّ المُنْتَهِي، والمُتَمَذْهِبُ المُبْتَدِئ، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
* فَكَانَ مِنْ دَوَاعِي اخْتِصَارِي لمَعَارِفِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، مَا يَلي:
أوَّلًا: أنَّ الكُتُبَ الَّتِي تَكَلَّمَتْ عَنِ التَّعْرِيْفِ بالمَذْهَبِ الحَنْبَليِّ كَثِيْرَةٌ، مَا يَعْسُرُ الإحَاطَةُ بِهَا، ويَضِيْقُ الوَقْتُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْهَا، مِمَّا كَانَ سَبَبًا في انْصِرَافِ كَثِيْرٍ مِنْ شُدَاةِ الحَنَابِلَةِ عَنِ الوُقُوْفِ على مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»!
ثَانِيًا: أنَّ في الاخْتِصَارِ: تَقْرِيْبًا وتَهْذِيْبًا لمُطَوَّلاتِ الكُتُبِ المُعَرِّفَةِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، ولاسِيَّما أنَّ كَثِيْرًا مِنْ مَعَارِفِ المَذْهَبِ مَخْبُوْءَةٌ في مَثَاني مَبْسُوْطَاتِ الكُتُبِ الكِبَارِ الَّتِي لا يُحْسِنُهَا ـ غَالِبَا ـ إلَّا كِبَارُ الحَنَابِلَةِ مِمَّنْ بَلَغُوْا شَأوًا في المَذْهَبِ والتَّمَذْهُبِ على حَدٍّ سَوَاءٍ.
كَمَا في الاخْتِصَارِ أيْضًا: تَسْهِيْلًا لِمَا يَصْعُبُ حِفْظُهُ، أو يَعْسُرُ إدْرَاكُهُ مِنْ مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ».
لأجْلِ هَذَا؛ كَانَ في تَقْرِيْبِ مَعَارِفِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» تَحْتَ مَعْلَمَةٍ جَامِعَةٍ: بُغْيَةٌ لطُلَّابِ الحَنَابِلَةِ بِخَاصَّةٍ، ولغَيْرِهِم بعَامَّةٍ مِمَّنْ رَامَ التَّعَرُّفَ على مَذْهَبِ السَّادَةِ الحَنَابِلَةِ، ولَو بِشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ.
فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ المُسَمَّيَاتِ العِلمِيَّةِ، والأطَارِيْحِ الفِقْهِيَّةِ: أنْ رَسَمْتُ للكِتَابِ عِنْوَانًا بَدِيْعًا، قَدْ رَاضَ مُسَمَّاهُ، ولَاحَ مَعْنَاهُ، جَامِعًا لمَضَامِيْنِ مَذْهَبِنَا الحَنْبَليِّ، تَحْتَ عِنْوَانِ:
«مَعَالِمِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ مِمَّا لا يَسَعُ الحَنْبَليَّ جَهْلُهُ»
واللهُ هُوَ المُوَفِّقُ والمُعِيْنُ.
* * *
* وقَدْ هَذَّبْتُ مَعَالِمَ هَذَا الكِتَابِ في عِشْرِيْنَ بَابًا، وخَاتِمَةٍ، كَمَا يَلي:
البَابُ الأوَّلُ: مَعَالِمُ الفِقْهِ، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: الفِقْهُ لُغَةً، واصْطِلاحًا.
الفَصْلُ الثَّاني: أنْوَاعُ الفِقْهِ.
البَابُ الثَّاني: مَعَالِمُ المَذْهَبِ، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: المَذْهَبُ لُغَةً، وعُرْفًا، واصْطِلاحًا.
الفَصْلُ الثَّاني: مَنَارَاتٌ سَلَفِيَّةٌ لأتْبَاعِ المَذَاهِبِ.
البَابُ الثَّالِثُ: مَعَالِمُ التَّمَذْهُبِ الفِقْهِي، وفِيْهِ خَمْسَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: التَّمَذْهُبُ لُغَةً، واصْطِلاحًا.
الفَصْلُ الثَّاني: العِلاقَةُ بَيْنَ التَّمَذْهُبِ والتَّقْلِيْدِ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: العِلاقَةُ بَيْنَ التَّمَذْهُبِ والاتِّبَاعِ.
الفَصْلُ الرَّابِعُ: العِلاقَةُ بَيْنَ التَّمَذْهُبِ والاجْتِهَادِ.
الفَصْلُ الخَامِسُ: حُكْمُ التَّمَذْهُبِ بأحَدِ المَذَاهِبِ الأرْبَعَةِ.
البَابُ الرَّابِعُ: مَعَالِمُ التَّعَصُّبِ الفِقْهِي، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: التَّعَصُّبُ لُغَةً واصْطِلاحًا.
الفَصْلُ الثَّاني: العِلاقَةُ بَيْنَ التَّعَصُّبِ والتَّمَذْهُبِ.
البَابُ الخَامِسُ: مَعَالِمُ الانْتِصَارِ الفِقْهِي، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: الانْتِصَارُ لُغَةً واصْطِلاحًا.
الفَصْلُ الثَّاني: العِلاقَةُ بَيْنَ الانْتِصَارِ والتَّمَذْهُبِ.
البَابُ السَّادِسُ: مَعَالِمُ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ، وفِيْهِ ثَلاثَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: نَشْأةُ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأرْبَعَةِ.
الفَصْلُ الثَّاني: أسْبَابُ نَشْأةِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأرْبَعَةِ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: أسْبَابُ بَقَاءِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأرْبَعَةِ.
البَابُ السَّابِعُ: مَعَالِمُ نَشْأةِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: نَشْأةُ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الثَّاني: آفَاقُ الحَنَابِلَةِ، وأوْطَانُهُم.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: مُمَيِّزَاتُ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الرَّابِعُ: الشُبَهُ حَوْلَ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، والرَّدُّ عَلَيْهَا.
البَابُ الثَّامِنُ: مَعَالِمُ أُصُوْلِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ التَّاسِعُ: مَعَالِمُ أطْوَارِ نَشْأةِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ العَاشِرُ: مَعَالِمُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ الزَّمَانِيَّةِ.
البَابُ الحَادِيَ عَشَرَ: مَعَالِمُ طَبَقَاتِ مُجْتَهِدي المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: طَبَقَاتُ مُجْتَهِدي المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الثَّاني: أسْبَابُ اخْتِلافِ المُجْتَهِدِيْنَ.
البَابُ الثَّاني عَشَرَ: مَعَالِمُ كُتُبِ تَرَاجِمِ الحَنَابِلَةِ.
البَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَعَالِمُ أعْلامِ وفُقَهَاءِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ ثَلاثَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: سِيْرَةُ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ.
الفَصْلُ الثَّاني: أهَمُّ أصْحَابِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: أهَمُّ أعْلامِ وفُقَهَاءِ الحَنَابِلَةِ.
البَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَعَالِمُ الخِلافِ والتَّرْجِيْحِ في المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: شُرُوْطُ نَقْلِ المَذْهَبِ.
الفَصْلُ الثَّاني: مَسَالِكُ التَّرْجِيْحِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ والتَّخْرِيْجِ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: مَسَالِكُ التَّرْجِيْحِ في المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الرَّابِعُ: مُصْطَلَحَاتُ الأصْحَابِ عِنْدَ الخِلافِ والتَّرْجِيْحِ.
البَابُ الخَامِسَ عَشَرَ: مَعَالِمُ مُصْطَلَحَاتِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: أهَمُّ مُصْطَلَحَاتِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ.
الفَصْلُ الثَّاني: أهَمُّ مُصْطَلَحَاتِ فُقَهَاءِ الحَنَابِلَةِ.
البَابُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَعَالِمُ كُتُبِ الفِقْهِ الحَنْبليِّ، وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: أهَمُّ الكُتُبِ الجَامِعَةِ لرِوَايَاتِ الإمَامِ أحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ.
الفَصْلُ الثَّاني: أهَمُّ «مُتُوْنِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ» المُعْتَمَدَةِ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: أهَمُّ «شُرُوْحِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ» المُعْتَمَدَةِ.
الفَصْلُ الرَّابِعُ: أهَمُّ الكُتُبِ الكِبَارِ في المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ السَّابِعَ عَشَرَ: مَعَالِمُ كُتُبِ أُصُوْلِ الفِقْهِ الحَنْبليِّ، وقَوَاعِدِهِ، وفُرُوْقِهِ، وفِيْهِ سِتَّةُ فُصُوْلٍ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: أهَمُّ «أُصُوْلِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ».
الفَصْلُ الثَّاني: أهَمُّ شُرُوْحِ «أُصُوْلِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ».
الفَصْلُ الثَّالِثُ: أهَمُّ الكُتُبِ الكِبَارِ في «أُصُوْلِ الفِقْهِ الحَنْبَليِّ».
الفَصْلُ الرَّابِعُ: أهَمُّ كُتُبِ «القَوَاعِدِ الأُصُوْلِيَّةِ»، و«الضَّوَابِطِ الفِقْهِيَّةِ» في المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الخَامِسُ: أهَمُّ كُتُبِ «فُرُوْقِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ».
الفَصْلُ السَّادِسُ: المَنْهَجُ الفِقْهِي لطُلَّابِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَعَالِمُ قَوَائِمِ كُتُبِ ومَخْطُوْطَاتِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعَالِمُ مَشَارِيْعِ خِدْمَةِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
البَابُ العِشْرُوْنَ: مَعَالِمُ أسَانِيْدِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ، وفِيْهِ فَصْلانِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: مَعَالِمُ أسَانِيْدِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الفَصْلُ الثَّاني: الإجَازَةُ العَامَّةُ للمَذْهَبِ الحَنْبَليِّ.
الخَاتِمَةُ:
* * *
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
وكَتَبَهُ
ذِيَابِ بنِ سَعْدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِديِّ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
(1/ 1/ 1435)
__________
([1]) جَاءَ النَّاسُ كَافَّةً: أيْ كُلُهُم، فَكَلِمَةُ: «كَافَّةً» لا يَدْخُلُهَا «أل»، ولا تُضَافُ، ولا تَكُوْنُ إلا مَنْصُوْبَةً على الحَالِّ نَصْبًا لازِمًا!
وقَدْ أنْكَرَ الهَرَوِيُّ والحَرِيْرِيُّ والنَّوَويُّ وغَيْرُهُم على مَنْ ذَكَرَهَا مُعَرَّفَةً أو مُضَافَةً، وفِيْهَا بَحْثٌ يَطُوْلُ، وقَدْ أجَازَهُ الشِّهَابُ في «شَرْحِ الدُّرَّةِ» وغَيْرُهُ، لكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ جَوَازِهِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
انْظُرْ: «تَهْذِيْبَ الأسْمَاءِ واللُّغَاتِ»، و«شَرْحَ مُسْلِمٍ» (13/142) كِلاهُمَا للنَّوَوِيِّ، و«مُعْجَمَ القَوَاعِدِ العَرَبِيَّةِ» لعَبْدِ الغَنِي الدَّقرِ (363)، و«مُعْجَمِ الأخْطَاءِ الشَّائِعَةِ» لمُحَمَّدٍ العَدْنَانيِّ (218).
([2]) «أبو زَيْدٍ» لَقَبٌ لأُسْرَةِ الشَّيْخِ بَكْرٍ، لِذَا فَلا يُعَدُّ مِنَ الأسْمَاءِ الخَمْسَةِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا عَوَامِلُ الإعْرَابِ مِنْ رَفْعٍ وخَفْضٍ ونَصْبٍ، بَلْ يَبْقَى على الحِكَايَةِ؛ لكَوْنِهِ أصْبَحَ عَلَمًا ولَقَبًا لهَذِهِ الأُسْرَةِ، واللهُ المُوَفِّقُ.
([3]) كَلِمَةُ حَقٍّ: لَقَدِ اسْتَقْرَأتُ عَامَّةَ الكُتُبِ المَطْبُوْعَةِ المُعَرِّفَةِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ، فوَجَدْتُ كِتَابَ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لشَيْخِنَا العَلَّامَةِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ الحَنْبَليِّ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أجْمَعِهَا تَألِيْفًا وأحْسَنِهَا تَرْتِيْبًا، سَوَاءٌ في كَثْرَةِ مَسَائِلِهِ وفَوَائِدِهِ، أو في تَرْتِيْبِ مَدَاخِلِهِ ومَعَالِمِهِ، فَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيْقِ: كِتَابٌ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، ولا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ، ولَوْلا مَا هُنَالِكَ لقُلتُ: إنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَالَةٌ عَلَيْهِ! فكِتَابُهُ هَذَا يُعْتَبَرُ ضَرْبًا مِنَ الإبْدَاعِ العِلمِيِّ في هَذَا العَصْرِ، وبَدِيْعَةً مِنْ بَدَائِعِ الكُتُبِ الَّتِي يَفْتَخِرُ بِهَا الحَنَابِلَةُ على غَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ، فَكَمَا أنَّ السَّادَةَ الحَنَابِلَةَ يَفْتَخِرُوْنَ بكِتَابِ «الإنْصَافِ» للمَرْدَاويِّ في تَصْحِيْحِ مَذْهَبِهِم، فَلا يَقِلُّ افْتِخَارُهُم بكِتَابِ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لبَكْرٍ أبو زَيْدٍ، في تَعْرِيْفِ مَذْهَبِهِم، فللهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، «ومَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا ومَا كُنَّا لِلغَيْبِ حَافِظِينَ» (يوسف: 81).
ثُمَّ أُثَنِّي بكِتَابِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للشَّيْخِ الأُصُوليِّ الفَقِيْهِ عَبْدِ اللهِ التُّرْكيِّ الحَنْبَليِّ حَفِظَهُ اللهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُحَقَّقٌ في بَابِهِ، جَمَعَ فأوْعَى، ولاسِيَّما المُجَلَّدُ الأوَّلُ مِنْهُ، ففِيْهِ كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ لمَنْ أرَادَ التَّعَرُّفَ على «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ».
ومَنْ حَصَّلَ الكِتَابَيْنِ (بَكْرًا أبو زَيْدٍ، والتُّرْكِيَّ) فَقَدْ حَصَّلَ عَظِيْمًا، ومَا زَادَ عَلَيْهِمَا فغَالِبُهُ فُضْلَةٌ، لأجْلِ هَذَا فَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُمَا كَثِيْرًا في كِتَابي: «مَعَالِمِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»؛ حَيْثُ جَمَعْتُ بَعْضَ بُحُوْثِهِمَا في حُسْنِ صِيَاغَةٍ، وتَحْرِيْرِ تَهْذِيْبٍ، مَعَ تَقْرِيْرِ زِيَادَاتٍ وإضَافَاتٍ، لِذَا لم أعْزُ إلَيْهِمَا إلَّا نَادِرًا، واللهُ هُوَ المُوَفِّقُ، والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ.
وقَدْ أنْكَرَ الهَرَوِيُّ والحَرِيْرِيُّ والنَّوَويُّ وغَيْرُهُم على مَنْ ذَكَرَهَا مُعَرَّفَةً أو مُضَافَةً، وفِيْهَا بَحْثٌ يَطُوْلُ، وقَدْ أجَازَهُ الشِّهَابُ في «شَرْحِ الدُّرَّةِ» وغَيْرُهُ، لكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ جَوَازِهِ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
انْظُرْ: «تَهْذِيْبَ الأسْمَاءِ واللُّغَاتِ»، و«شَرْحَ مُسْلِمٍ» (13/142) كِلاهُمَا للنَّوَوِيِّ، و«مُعْجَمَ القَوَاعِدِ العَرَبِيَّةِ» لعَبْدِ الغَنِي الدَّقرِ (363)، و«مُعْجَمِ الأخْطَاءِ الشَّائِعَةِ» لمُحَمَّدٍ العَدْنَانيِّ (218).
([2]) «أبو زَيْدٍ» لَقَبٌ لأُسْرَةِ الشَّيْخِ بَكْرٍ، لِذَا فَلا يُعَدُّ مِنَ الأسْمَاءِ الخَمْسَةِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا عَوَامِلُ الإعْرَابِ مِنْ رَفْعٍ وخَفْضٍ ونَصْبٍ، بَلْ يَبْقَى على الحِكَايَةِ؛ لكَوْنِهِ أصْبَحَ عَلَمًا ولَقَبًا لهَذِهِ الأُسْرَةِ، واللهُ المُوَفِّقُ.
([3]) كَلِمَةُ حَقٍّ: لَقَدِ اسْتَقْرَأتُ عَامَّةَ الكُتُبِ المَطْبُوْعَةِ المُعَرِّفَةِ بـ«المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»، حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ، فوَجَدْتُ كِتَابَ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لشَيْخِنَا العَلَّامَةِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ الحَنْبَليِّ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أجْمَعِهَا تَألِيْفًا وأحْسَنِهَا تَرْتِيْبًا، سَوَاءٌ في كَثْرَةِ مَسَائِلِهِ وفَوَائِدِهِ، أو في تَرْتِيْبِ مَدَاخِلِهِ ومَعَالِمِهِ، فَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيْقِ: كِتَابٌ يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، ولا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ، ولَوْلا مَا هُنَالِكَ لقُلتُ: إنَّ كُلَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فَهُوَ عَالَةٌ عَلَيْهِ! فكِتَابُهُ هَذَا يُعْتَبَرُ ضَرْبًا مِنَ الإبْدَاعِ العِلمِيِّ في هَذَا العَصْرِ، وبَدِيْعَةً مِنْ بَدَائِعِ الكُتُبِ الَّتِي يَفْتَخِرُ بِهَا الحَنَابِلَةُ على غَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ، فَكَمَا أنَّ السَّادَةَ الحَنَابِلَةَ يَفْتَخِرُوْنَ بكِتَابِ «الإنْصَافِ» للمَرْدَاويِّ في تَصْحِيْحِ مَذْهَبِهِم، فَلا يَقِلُّ افْتِخَارُهُم بكِتَابِ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ» لبَكْرٍ أبو زَيْدٍ، في تَعْرِيْفِ مَذْهَبِهِم، فللهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، «ومَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا ومَا كُنَّا لِلغَيْبِ حَافِظِينَ» (يوسف: 81).
ثُمَّ أُثَنِّي بكِتَابِ «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ» للشَّيْخِ الأُصُوليِّ الفَقِيْهِ عَبْدِ اللهِ التُّرْكيِّ الحَنْبَليِّ حَفِظَهُ اللهُ، فَهُوَ كِتَابٌ مُحَقَّقٌ في بَابِهِ، جَمَعَ فأوْعَى، ولاسِيَّما المُجَلَّدُ الأوَّلُ مِنْهُ، ففِيْهِ كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ لمَنْ أرَادَ التَّعَرُّفَ على «المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ».
ومَنْ حَصَّلَ الكِتَابَيْنِ (بَكْرًا أبو زَيْدٍ، والتُّرْكِيَّ) فَقَدْ حَصَّلَ عَظِيْمًا، ومَا زَادَ عَلَيْهِمَا فغَالِبُهُ فُضْلَةٌ، لأجْلِ هَذَا فَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُمَا كَثِيْرًا في كِتَابي: «مَعَالِمِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ»؛ حَيْثُ جَمَعْتُ بَعْضَ بُحُوْثِهِمَا في حُسْنِ صِيَاغَةٍ، وتَحْرِيْرِ تَهْذِيْبٍ، مَعَ تَقْرِيْرِ زِيَادَاتٍ وإضَافَاتٍ، لِذَا لم أعْزُ إلَيْهِمَا إلَّا نَادِرًا، واللهُ هُوَ المُوَفِّقُ، والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ.
راااااااااااااااااااااائع
ردحذفالسلام عليكم
ردحذفأحتاج الكتاب ضروري كيف احصل عليه