25‏/05‏/2016

هذه قصة دخولي مستشفى النقاهة والحمد لله !! - كتبها/ محمود بن كابر الشنقيطي

.
(1/3)
هذه قصة دخولي مستشفى النقاهة والحمد لله !!
كتبها/ محمود بن كابر الشنقيطي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

وبــعــد:

فهذه خاطرة جاشت في صدري كتبتها قبل عشر سنوات فكتبتها لإخواني، وانقلها اليوم كما هي وأرجو الله أن ينفعني وإياهم بها.

عشت ولله الحمد طيلة حياتي إنساناً عادياً ككل الناس، وتقلبت بي المراحل الحياتية ما بين طفولة، وشباب،ٍ وتعلُّم، وتعليمٍ، وبنوّة، وأبوّة، وأنسٍ بالأهل، وغربةٍ مريرةٍ عنهم.

شاء الله ذات يومٍ أن أدعو أحد زملائي من أبناء المدينة المنورة وهو من أصفياء أصحاب الطفولة، اتصلت بهاتفه ودعوته لوحشتي من وحدتي يومئذ، كان زميلي هذا شابا قدر الله عليه رزقه، وهو يكدح ويبيع ظهيرة الصيف الحار، حتى تغير لونه وأصبح الناظر إليه يظنه ابن 70 سنة وهو في عقد الثالث.

انتظرته حتى انتهى من عمله، وجاء إلي وطرق الباب، تجاذبنا الحديث بيننا، وجذبنا الحديث إلى المال، والوظائف، والفقر، والغنى، فبدأ أخي يشتكي إلي ما يجده من ضيق الحال والشدة في العيش بنبرة ممتلئة من التسخط والأسى وعدم الرضى بما كتب الله.

عادت بي الذاكرة حينها إلى عدة أشهر تعرفت فيها في قاعة الدراسة على زميل جديد، كان سببا في تغير نظرتي للحياة الدنيا، ولأهل هذه الحياة الدنيا.

إنه زميل فريد أجزم أن 99% منكم لم يصاحب زميلاً أو زميلةً مثل زميلي هذا !.

فهو إضافة لما يتمتع به من خلق عالٍ، ونفسية طيبة، ومعلومات شرعية قيمة، وآداب إسلامية، وحرص على الدعوة إلى الله، وعقل راجح، إلا أنه: مُـقـْعـَدٌ ؛ لا يتحرك من جسمه كله إلا: رَأْسهْ !!.

لن أنسى أيام تعرفي عليه التي احتقرت فيها كل شيء على هذه الدنيا، وبغضت إلي (الاستماتة) لتحصيل الترف والغنى، وأدركتُ فيها ما كنت غافلاً عنه طيلة حياتي، وهي نعمة الصحة والعافية.

انتهزت الفرصة وعرضت على صاحبي الذي تغدى معي أن نزور وإياه صاحبنا هذا في مستشفى النقاهة.

صلينا العصر وانطلقنا حتى دخلنا المستشفى فكانت المفاجأة:
عشرات من المرضى المشلولين شللاً رباعياً، وبعضهم مصاب مع الشلل بصعوبة النطق، فلا تكاد تفهم كلامه وبعضهم مختل عقلياً ...........الخ

القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو:
أنه لا يستطيع أحد منهم تنظيف أذنيه، أو أنفه، ولا الأكل أو الشرب بنفسه، ولا دخول الحمام بمفرده، بل لا بد له من عامل يطلع على عورته، وينزع ملابسه، ويغسل عنه الأذى، ولربما أسمعه كلمات جارحة ملؤها الضجر والتأفف.

كان من بين هؤلاء: الموظف، ولا عب الكرة المشهور، والداعية، وغير ذلك.

جلسنا معهم جميعاً جلسة مسائية فقال لي صاحبي:
هل ترى هذا المعاق المقابل لي ؟.

قلت: نعم

قال: كان هذا يزورنا كل يوم ويأتينا بالشاي والقهوة طيلة سنوات عديدة، وشاء الله أن يصاب بحادث ويرقد معنا في المستشفى !.

قمنا وخرجنا بعد هذه الجلسة فقال لي صاحبي: جزاك الله خيراً فأنا ملكٌ ولكني كنت غافلاً عن الملك الذي أنا فيه، إني أنظف أنفي بيدي، وأهش الذباب عن وجهي، وآكل وأشرب وأمشي، أقضي حاجتي، فلا أحد يطلع على عورتي أو يتأفف مني، ولو عرضت علي الدنيا بزوال نعمة من هذه النعم ما رضيت..

فهل ندرك حجم النعم التي تحف بنا ونحن عنها غافلون ؟.

أيها الأخ وأيتها الأخت:
كل منا له أمنيات في حياته، من تخرج وزواج، ومنصب، وولد، ومال، وجاه، وطول عمر، وهذه أمنيات مشروعة، وسؤالها الله واستزادته منها رغبت فيه نصوص الشريعة، ولكن:

هناك الكثيرورن يتمنون سجدة واحدة لله ولو لم يقوموا منها، تمزق الحسرة نفوسهم عند رؤية الركع السجود.

وآخرون يتمنون الأكل والشرب بأنفسهم، ودخول الحمام بمفردهم، من غير اطلاع الخدم والممرضين على عوراتهم.

فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركاً.

* * *


(2/3)
هذه قصة دخولي مستشفى النقاهة والحمد لله !!
كتبها/ محمود بن كابر الشنقيطي

قصتي الثانية في مستشفى النقاهة، وصاحبها توفي رحمه الله.

قصتي الثانية أبلغ عظة وأعمق أثراً، لأنّ صاحبي في القصة الأولى حل به بلاءٌ من الله لحكمة بالغة لا يعلمها إلا الله، وصاحبي اليوم تحرّى ساعة إجابة لا يرد فيها الدعاء واستزلّه الشيطان فدعا على نفسه بسبب ضغوط الحياة، فما هي القصة ؟.

في عام ١٤٠٧ هـ عزم هذا الرجل على الحج وهو يومئذ رب أسرة، ويعمل في المقاولات، ووقف مع الحجيج على صعيد عرفات، وأحرقته الشمس وآذاه حرها وتذكر الهموم والنكبات التي حلت به في حياته فجرت عيناه بالدمع، ولكنّه لم يسأل الله الفرج والإعانة، بل أخطأ فقال وهو في هذا المكان الذي لا يرد الله فيه داعيا:

(اللهم إن كنت تعذبني بهذه المشاكل التي أعانيها بسبب ما مضى من عمري في المعاصي، فاجعل عذابي في الدنيا وصبِّرني)

وهنا أحب أن أبين أنه لا يجوز للإنسان أن يتمنى الموت ولا أن يتمنى البلاء، فليس كل من مات مرتاح كما يعتقده بعض المتشائمين من الدنيا، ولذلك لما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ وَاسْتَرَاحَتْ، غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ َوَقَالَ (إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ).

ونهى ﷺ عن تمني الموت فقال في الصحيح عنه (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)

وهذا في حالة كثرة الفتن ومخافة الإنسان على دينه.

وكذلك نهى ﷺ عن تمني البلاء أو تعجيل العقوبة في الدنيا فعن أنس رضي الله عنه قال:
(دخل النبي ﷺ على مريض كأنه فرخ منتوف من الجهد ، فقال له النبي ﷺ:
(هل كنت تدعو الله بشيء.؟)

قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا.

فقال له النبي ﷺ: ألا قلت:
(اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال : فدعا الله فشفاه)

نعود إلى قصتنا:
عاد الرجل من الحج مع الحجيج، ولكنّ دعوته على نفسه بتعجيل العقوبة فتحت لها أبواب السماء وأجابها الله..!

بعد الحج بستة أيام ركب مع صاحبه السيارة، وخرجا فاغبر الجو واصطدما بكوم ترابي، وسرعة السيارة 80 كلم ، وهي سرعة تمشي بها الناقلات الكبيرة بتمام الاعتدال، يعني أنها ليست سرعة خطيرة، ولكن أبواب السماء فتحت لصاحبنا فأجيبت دعوته.!

جاء المسعفون فحملوا صاحبنا وكانوا 4 رجال، فأمسك كل منهم طرفاً، فتضاعف كسر رقبته، لجهل المسعفين، وأدى ذلك إلى شلل كامل في الجسد، وكان بإمكان المسعفين أن يتأنوا أو يقدرَ الله أن يكون بينهم من يحسن الإسعاف، ولكن أبواب السماء فتحت لصاحبنا فأجيبت دعوته.!!

جاء إلى المستشفى وفتحوا حلقه بسبب ضيق النفس وامتلاء الرئة بالبلغم والرجل في العناية المركزة وفمه مفتوح ولا يستطيع الكلام أو الأكل.

كان يفهم اللغة الإنجليزية ويتحدث بها، ومرّ عليه الفريق الطبي يوماً وكان فيهم طبيب هندوسي، فقال لمرافقيه بالإنجليزية:

(لو كان هذا المريض عندنا لقتلناه، لأنه يكلف ميزانية كبيرة ولا تستفيد منه شيئاً

فأثرت فيه هذه الكلمات وأسبل دمعه وتمزق فؤاده ولكنه مسكين لا حول له ولا قوة.!!

بل إنه ذات مرة وهو في حالته الصعبة هذه كانت تأتيه ممرضة هندوسية أيضاً لتغير له وتزيل الأذى، ولكنها تؤذيه في نفس الوقت فتمد يدها إلى أنفه وتحرك الخرطوم الداخل في الأنف بشدة وعنف تضجراً من حال المريض وانها ملزمة بإزالة الأذى عنه، يقول:

فأحس بألم وصوت مثل الصاعقة ولا أستطيع الشكوى أو التعبير لأنني لا أتكلم.!!

مرت السنوات فحفظ الرجل القرآن كاملاً ، ووالله الذي لا إله غيره إنّ وجهه ليتلألأ نوراً وضياء حين تراه، فأثر الطاعة بادٍ على وجهه وهو على حالته تلك، منظر وجهه وبسمته الساحرة يشرحان الصدر.

الآن (١٤٢٧هـ) أمضى هذا الرجل 22 عاماً وهو مشلول شلل كامل لا يتحرك فيه إلا الرأس فقط، نسأل الله له الشفاء العاجل والختم بخير، ولكن:

أبشركم:

فالزائرون له لا يحزنون عليه بقدر ما يحزنون على أنفسهم، بسبب الإيمان والصبر والجلَد الذي يتمتع به وبسبب نور الطاعة الذي يكاد يخطف الأبصار.

فهل يتعظ بعضنا ويعلموا أن هذه الأرجل والأيدي والعضلات والأعصاب نعمة من الله لا يستغرق سلبها منهم إلا قول (كن) ؟.

وختاما:
إذا ضاقت الدنيا وصعبت الحياة وتنغص العيش فلا يستهوينكم الشيطان وتدعوا على أنفسكم أو تتمنوا الموت فتندموا ولا ينفع الندم وتذكروا قول رسول الله ﷺ للرجل: ألا قلت :
(اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).


* * *

(3/3)
هذه قصة دخولي مستشفى النقاهة والحمد لله !!
كتبها/ محمود بن كابر الشنقيطي



قصتي الثالثة والأخيرة غريبةٌ مؤلمةٌ بعض الشيء مع أنّها قصيرة، ولكن ما هي وما سببها..؟؟ 

كنت مع صاحبيَّ الأول والثاني اللذينِ كتبت قصة كل واحد منهما باختصار، أزورهما أقضي معهما ما كتب الله من الوقت ثمّ أنقلب راجعاً إلى بيتي.

سمعتُ أحدهما مرةً وهو يتحدث عن الدور الثاني في المستشفى وعليه آثار الألم والاعتبار من أحوال المُنَوّمين فيه، قلت في نفسي لعلي أصعد إلى الدور الثاني لأرى بنفسي من فيه وكيف حال المُنوَّمين هناك.؟

ولكن قبل أن أصعد أحب أخبركم أنّ أهل الدور الثاني يتعظ ويعتبر منهم أصحابي الذين لا يتحرك منهم إلى الرأس فقط.!!!

بل بعض أصحابي يحك عينه بالمسواك المثبّت على عربته ومع ذلك يعتبر بحال أهل الدور الثاني ويتعظ ويحمد الله على ما هو فيه من بلاء، والحمد لله على كل حال !.

أخذت بعضي وصعدت الدرج.

وصلت ورأيت الأقسام قسم للرجال وقسم للنساء، فدخلت قسم الرجال، وهناك كانت المفاجأة.!

لا إله إلا اللَّـــــه

ما هذا الذي أراه بعيني..؟؟

هل أنا في حلمٍ مزعج أم في حقيقة ؟؟

ممرضٌ ممسكٌ بــالمهراس (النّجر) ويدقُّ شيئاً، أومأت إليه برأسي مسلما عليه لأرى ما الذي يصنعه.

تُــــرى ماذا كان الممرض يطحن ؟

لقد كان الممرض يطحن حبوبا طبيـة، ولكن لماذا يطحنها ؟

لأنّ أهل الدور الثاني كلهم رجالاً ونساءاً ليس فيهم أحد يستطيع تناول الدواء عن طريق البلع بالفم.؟

فكلٌ منهم له ليٌّ موصّلٌ بفتحة الأنف وعن طريقه يتناول الطعام والشراب والأدوية وغير ذلك.!

بل كل هؤلاء في غيبوبة منذ سنوات طويلة.

دخلتُ داخل القسم لأكمل جولتي، فرأيت العجب العجاب، رجال من مختلف الأعمار أبناء العشرين، والسبعة عشرة، والثلاثين، والأربعين، والسبعين، كلهم ممدد على سرير لا يشعر بما حوله ولا يدري ليلاً من نهار ولا شتاء من صيف ولا يقظة من نوم.!!

فنزلتُ متأثراً جداً بهذا المشهد الأليم، جلست مع صاحبي وأخبرته بما رأيت فقال لي (وهو المشلول شللا كاملاً ولا يتحرك فيه إلا الرأس) قال:

أنا إذا صعدت إليهم أتأثر كثيراً وربما أبكي.!!

ثم استطرد يحكي لي بعض أخبارهم وأثناء الحديث وقف علينا شابٌ في العشرينات من عمره، سلم علي وعلى صاحبي وقبل رأسه ووقف قليلاً ثمّ مضى.

قال لي هل ترى هذا.؟

قلت نعم.

قال هذا يزور المستشفى منذ أن كان في الصف الرابع الابتدائي تقريباً ولا زال يزوره إلى اليوم لأنّ أمّه منذ تلك السنة وهي في غيبوبة حتى ساعتها هذه.!!!

ثمّ عاد للحديث عن المرضى في الدور الثاني:

فقال أعرف واحداً منهم كان بلا شعور إذا خرج منه الأذى أخذه وأكله بفمه حتى منعوه من ذلك بطريقة أو أخرى.

وأعرف واحداً منهم كان يزورنا كثيراً وقدر الله عليه أن أصابه صرعٌ فسقط على رأسه ودخل في غيبوبة ولا زال غائباً إلى الآن.!!

وأثناء هذا الحديث سلمت على رجل مقعد كبير جداً في السن فلم يرد علي السلام، فسألت صاحبي هل هذا الرجل لا يسمع، فكان الجواب مفاجأة بالنسبة لي..

قال لي هذا الرجل مصاب مثلي بشلل رباعي ولا يسمع ولا يرى .!!!

حان موعد الصلاة فقمنا وذهبت لأصلي، وبقيت هذه المشاهد في ذاكرتي شاهداً على أن الله حليمٌ على من يعصيه من عباده.اهـ

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق