.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله أخي الفاضل، ونفع الله بك.. سألتني -باركك الله- عن منهج تسير عليه بقية حياتك الجامعية، وأنت في كلية الشريعة/ المستوى الثالث، وما دمت طلبت نصحي، وأحسنت الظن فيَّ، فإني سأخبرك بالذي سأفعله لو رجع بي الزمان، وسترى أن ما أسطره لك يختلف في طريقته عما اعتاد أهل المناهج ذكره من ترتيب للكتب وِفق منهج ارتأوه.
* أقول لو رجع بي الزمان، فإني سأولي المقررات الدراسية (الكتب وليس المذكرات!) عنايتي الفائقة، فهي أهم الكتب في كل فن، ولن أستعلي عليها لأنها مقررات دراسية حقها النسيان بعد أداء الامتحان!
ولكل عالم، وعلم كتب يدور عليها، والكتب المقررة كتب جامعة شاملة.
استعن بالمختصرات على ضبطها، وما يستغلق عليك لطوله أو صعوبته، فإن المختصرات المتقنة الأصيلة كفيلة بتعبيد الطرق، وسترى أنها تستوفي نسبة كبيرة من ذلك العلم..
سترى بعد مدة ومعايشة لكتب الفقه أن الروض المربع من أهم الكتب -إن لم يكن أهمها-، سترى أنك تعود إليه لتضبطه وتكرر النظر فيه.
وكذا روضة الناظر.
يقول ابن عثيمين أن الكتب التي اعتمد عليها في العقيدة ثلاثة: شرح الطحاوية، والتدمرية، ومختصر الصواعق.
ولا تنس كتاب التوحيد، فهو فريد في بابه، واعتن بمسائل الإمام، ففيها استنباطات دقيقة.
ويعينك على العلم والمقررات ضبط متن مختصر في كل فن.
مثلا: الزاد- الورقات- الاجرومية- الطحاوية- الواسطية ... الخ.
اعتنِ بهذه المتون، وكرر النظر فيها. ومن المستحسن أن تقرأها جميعاً مرة واحدة من دون شروحها في كل مستوى دراسي.
* إياك والتشتت، والتوسع، اضبط القليل تضبط الكثير، يقول ابن خلدون: إن كثرة التصانيف صارفة عن التحصيل. وقال العقاد: قراءة كتاب عشر مرات خير من قراءة عشرة كتب.
* الانشغال بالراجح في مرحلة مبكرة محرقة للفقيه، كثير من الطلبة يرجح أن الماء قسمين ويشنع على القول الآخر ولكنه لا يعرف كيف اختاروا أنه ثلاثة أقسام.
* لابد من العناية بمقصد العلم، فقبل معرفة الراجح في نفاذ تصرفات السكران لابد أن نعلم كيف نفذت وكيف لم تنفذ، ومن الأخطاء الشائعة في تعامل البعض مع أصول الفقه أنه يجعلها مرتعا للترجيحات الفقهية، إذ مقصود دراسة الأصول معرفة العلاقة بين الأدلة والقواعد العامة، التي تنتظم الأدلة في سلكها، والحصيف لا تستدرجه استطرادات العلماء قبل فهم القواعد والأصول.
* محرقة مريد العلم أنه يُصدم بمعلومات ومعارف هائلة، فيظن أنه أحاط بالعلم من جميع جوانبه، ويرى أنه بلغ النهاية وهو ما زال يتعثر في البدايات، ومن أسباب هذه الظاهره وقوعه على بعض ما يظنه عثرات الأكابر، فيستدرك على هذا ويتعقب ذاك، ويستغرب كيف فات الدليل الإمام على جلالة قدره، وهكذا يستمر مسلسل الغرور والتعالي، والأخطر حين ينعزل عن مصدر التلقي، ورغم ركام الغرور والتعالي فإن الحق قد يكون مع المُستَدرك عليه.
* الحلم والتأني: كلمة سر التعلم، فالمتعلم في أول خطوه، لابد له من الحلم على الأقوال، وعدم العجلة، ويقدم الفهم على الرأي. لابد من فهم أقوال العلماء والمذاهب كما أرادها أصحابها لا كما تراها. لا تقدم نَفَس المناظرة والمجادلة على نفس التعلم والتأمل. خُلق بعض الطلبة من العجل، ما زال في أول خَطْوِه، ولكنه يقرأ بنفس غضبية لا تعي ولا تفهم، يُخَطِئ ويناظر وهو لم يفهم القول، ولا كيف نشأ، ودليله في كل ذلك، أنهم خالفوا ما كان عهده، أو ما قاله شيخه.
* إياك وتقييم المعلمين وتصنيفهم، فالمرحلة التي أنت فيها مرحلة تعلم لا مناظرة، والمعلم قد يفيدك بعلمه، أو بالمقرر الذي يعلمه، إن أتقنته. دع مجادلة الشيخ ومناقشته، وأَحْسِن التأتي إليه، وحاول فهم نفسيته، وتَذَلل له، فالقلوب مغاليق لها مفاتيح ومغاليق، ولا يمنعنك سوء خلق الشيخ، أو انتمائه، أو سلوكه، من الاستفادة منه، ولا يزهدنك تبسطه وحرصه، فيه.
مُنع أحد أكبر طلاب ابن عباس وأكثرهم نباهة علم ابن عباس لكثرة اختلافه عليه، فيالخسارة ما ضَيَّع!
وذلك لأنه بدأ يرجح ويناقش شيخه في مرحلة التعلم، ويعلن ذلك، قارن هذا بموقف ابن عباس، كان له رأي فلم يفصح به إلا بعد وفاة عمر، قال: منعني مهابته. وكان حينها ملازما للفاروق، يحضر مجالسه، وبلغ عنده شأوا عظيما، حتى أنه كان يستشيره ويثني عليه، ويعلن الإعجاب به، حتى حسده شباب المدينة على تلك المنزلة التي نالها. كيف به لو كان أعلن المخالفة والترجيح والمجادلة، وليس المطلوب تغيير الآراء بحال.
والشيخ بشر، يعجبه الثناء والتقدير والاحترام والحرص على الطلب، وتقدير كلامه، وخدمته كذلك، لا سيما فيما يتعلق بأبحاثه العلمية، ففي ذلك خدمة للشيخ ونفع للطالب.
ما نال بعض طلبة المشايخ ما نالوه لوفرة علمهم وتميزهم عن سائر الطلبة، بل بحسن تأتيهم، والقلوب ما تآلف منها ائتلف وما تخالف منها اختلف.
* ويُستحسن القرناء الذين يعينون المرء على الطلب، ويشحذون همته للمنافسة، وهؤلاء القرناء لا يلزم أن يكونوا أخلاء، طباعهم متوافقة، وسجاياهم واحدة، وإنما قرناء جمعهم العلم. وهذا من أعظم ما يعين طالب العلم، أن يجد له من ينافسه، فيسبق هذا مرة وتسبقه أخرى، ويزهد بعض الطلبة عن القرين الصالح إذا لم يكن صاحبا، فللصحبة رجالها وللطلب رجاله، ففرِّق بينهما تفلح. ويصرف الطالب مصاحبة البطالين، الذين ينسيه أنسه بهم لذة الطلب والأنس به. وأشد ما يبتلى به قرناء الطلب التحاسد، فاصبر عليه.
* وأما المناهج التي اجتهد بعض الفضلاء في خطها، ومرحلتها، فهذه اجتهادات تخضع للميول والتجارب، وكذا أفضل كتاب في كذا وأنفع كتاب ... الخ، والغالب أن المرء يذكر ما كان أكثر تأثيرا عليه، أو ما تعارف عليه أهل الفن. والمقصود أنها اجتهادات، لا يلزم السير عليها، وفي بعضها تطويل لا داعي له، بل هو من أخطاء الطلب. والباحث يعجب أول الأمر بكثرة التفريعات، والمراحل، ولكنه إن رام التطبيق عجز عن ذلك، وخير المناهج ما يقدم النفع الكثير في الوقت القصير، والوسيلة السهلة المختصرة، وليس من شرط البرنامج الناجح حشر جميع ما ألف في الباب!
* وسأذكر لك بحول الله ما ينفعك في هذا الباب: لكل علم متون ابتدائية، ومتون نهائية، وكتاب جامع مقارن.
مثلا: الزاد أو الدليل أو العمدة= ابتدائي.
الروض= نهائي.
حاشية الروض أو المغني = جامع مقارن.
وهكذا في جميع العلوم، فتبدأ بالابتدائي حتى تتهيأ للنهائي، ثم تنظر في الكتاب الجامع المقارن.
بعدها تنظر في المطولات التي لا يستغني عنها طالب، كالأم، والمغني، وفتاوى ابن تيمية، والمحلى، والمجموع وغيرها، وفي هذه المرحلة لابد أن تكون كتب السنة وشروحها بتناول يدك.
وإن كنت ممن يريد الاعتماد على الروض في الفقه فلابد أن يكون الزاد على مقربة منك، وهكذا في كل متن كان أصلا لمتن آخر، أو كتاب كان أصلا لكتاب آخر، فمثلا: بعض عبارات روضة الناظر لا تتضح على وجهها إلا بالرجوع للمستصفى.
* والأصل في مرحلة المتون أن تكون مرحلة انتقالية، ينجزها المرء في أشهر معدودة، ثم ينتقل لما بعدها، ومن أخطاء كثير من البرامج أنها جعلت المتون غايات بحد ذاتها.
* وتنبه لبعض الشروحات المطولة لمتون المختصرة، فهذه موسوعات فقهية، خرجت بالمتن عن مقصوده، فهذه تؤخر لمرحلة متقدمة ولا يبدأ بها، كالممتع على الزاد.
وخلاصة الأمر: اختر من كل فن متن أو اثنين، ابتدائي يؤهلك للمتن المنتهي، ولا تكثر المتون على نفسك، وبعض العلماء كشيخنا الشيخ عبدالكريم الخضير حفظه الله ينهى تعدد المتون في الفن الواحد، فإن كان ولابد؛ فمنظوم ومنثور، ولكن لا يجمع نظمين ونثرين، ففي ذلك تشتيت للطالب. ووظيفة المتون: جمع أطراف العلم وأشتات مسائلة، ولذا سترى مستقبلا أنك تستقر على متن في كل فن، لعدة اعتبارات، إما سهولة عباراته، أو كثرة فروعه، أو لارتياحك له، وربما لحبك مؤلفه، ولكل مشربه، فتوليه عناية أكثر من غيره، ويجمع لك ما تناثر من العلم، وهذا لا تستطيع تحديده إلا بعد مدة وطول ممارسة ومقارنة، ورأيت بعض الأفاضل اعتمد الزاد في الفقه، وبعضهم الروض، ورأيت أحد كبار العلماء اعتمد عمدة الفقه! واعتمده: أي جعله عمدة له، يكثر مراجعته، ويدمن مطالعته، حتى تصبح له معه صحبه، فيتذكر العلم من خلاله.
* فإذا انتهيت من مرحلة المتون تنتقل للمرحلة الأهم، وهي الإبحار في مطولات العلم، بشرط أن تكون استوعبت المتن استيعابا جيدا، ففهمت المتن، وقرأت شرحا أو شرحين عليه، وعرفت مواطن الإجماع فيه، وآراء الجمهور، ومفردات المذهب، وهكذا، وأثناء إبحارك في مطولات الفقه، والتقاطك نفائس الجواهر والدرر، يجب أن لا تغفل عينك عن المتن، تراجعه بين الفينة والأخرى، وتقيد صوائدك عليه، من قواعد أصولية، وتقييدات، وتوضيحات، واستدراكات، وهلم جرا. وأثناء قراءتك للمطولات يجب أن تعتني بالصناعة الفقهية، والأدلة الكلية الإجمالية، أما البحث عن الفروع للإجابة على استفسارات فرعية، فهذه لا تصنع فقيها.
* ولأن الفقه تخصصك، فسأخصه مزيد عناية، تختلف آراء النُظَّار، منهم من يرى أنه لابد من التمذهب أولا، ويعنون بالتمذهب معرفة راجح المذهب، والمقارنة بين متون المذهب، وزيادات كل متن على الآخر ونحو ذلك، ولذا تجد مناهجهم طويلة النفس في متون المذهب. ورأيي أن هذه مرحلة متقدمة جدا، لا تلزم إلا من أراد أن يكون متخصصا في المذهب، وتأتي بعد الاطلاع على المطولات وجرد السنن والأخذ من الفقه بحظ وافر، وهي مرحلة اختيارية لا تلزم الطالب، ومن الخطأ جعلها مقدمة للنظر في المطولات، أو جعلها العتبة الأولى للفقيه.
فمن رام الفقه، فعليه ضبط متن (معتمد) يختاره، وقولي معتمد، أي معتمد لدى المذهب، فأستثني المتون التي تعبر عن أصحابها. فهناك فرق بين التأسيس على رأي فرد ورأي جماعة، والتأسس على مذهب يعني حيازة ربع الفقه، بخلاف التأسس على رأي فرد مهما علا شأنه، سواء كان السعدي أو ابن عثيمين أو حتى ابن تيمية، فهؤلاء يجب أن تأتي آراؤهم في المرحلة التالية. بعد التأسس على كتاب في المذهب -يفضل الزاد أو الروض لأن العناية بهما أكثر-، تبدأ بالإضافة والنقص والاستدراك والتعليل، ومعرفة وجوه الوفاق والخلاف والانفراد، فتضاف للأساس.
ولا يقال: لماذا التأسيس على الأقوال المرجوحة (الخاطئة!)، لأن الراجح والمرجوح أمر نسبي، ومعرفة المرجوح -في نظرك- معرفة لقول جماعة من العلماء، والترجيح معرفة لقول جماعة آخرين، فتكون عرفت قولين أو ثلاثة أقوال، كما أن معرفة ما تراه مرجوحاً تربية للنفس على الأناة، والحلم، والنقد ... الخ، ولو كان رأيا لشخص لقيل بتجاوزه، ولكنه رأي مذهب. والتأسس على ما سُمي راجحا تربية على رأي واحد بلا نقد أو نظر أو حتى اطلاع تام على الأقوال المطروحة، وكم من أقوال قيل عنها مرجوحة نُقلت فيها إجماعات، وحين ذُكرت لأصحاب مدرسة الراجح تنكروا لها، واستعظموا أن يكون في الرأي الذي ابتذلوه إجماعا لم يسمعوا به، وهم أهل الترجيح والنظر!
* ولابد من طريق رديف يعين الطالب، وينشطه إذا كسل، ويضيف لعلمه علوما، وللسانه ألسنا، ولعقله عقولا، ويحقق هذا القراءة في كتب الأدب، من شعر ونثر، وبلاغة، ولابد من حظ وافر من التاريخ والتراجم، ففي هذه تهذيب للسان والقلب، وتفهيم للعقل.
* وتعلم الأدب، أعني أدب النفس والعلم، مقدم على معرفة العلم، وكم عالم احترق علمه بسبب سوء أدبه، وخساسة طبعه، وهذا أمر مشاهد معلوم، فالواجب تأديب النفس والانشغال بالأهم على المهم. ويرى جمع من أهل الفضل أن مشكلتنا أخلاقية بالدرجة الأولى وليست علمية. وعدم التأدب يذهب ببركة العلم، وأنصح بكتب الخطيب، وجامع ابن عبدالبر. وإحياء الغزالي وتذكرة الكتاني، ولا يزهدك فيها سَنَن أهل الطريقة التي سلكوا بعض مسالكها، فمن أقوال الكتاني التي نقلها عن الغزالي: «واعلم أن خطأ شيخك أنفع لك من صوابك لنفسك»، وقد صدق. وفي مقدمة سنن الدارمي جواهر ودرر، ولا أعلم أن أحدا فاقه في هذا الباب.
* ولا يليق بطالب العلم أن يكون يومه خلوا من حديث الرسول ﷺ ، ولا قيمة للعلم بلا سُنة. والفقه معرفة الحكم بدليله. فاحرص على قراءة الحديث النبوي، وينصح العلماء بالبدء ببلوغ المرام ونحوه من متون الأحكام، وهذا خطأ. أو فيه قصور لأن الأولى أن يبدأ الطالب بما يزكي نفسه، ويرفع إيمانه. والمقصود قراءة المتون الحديثية، واقترح لهذا الاضطلاع على الكتب الأصلية كصحيح البخاري وبقية الستة، وموطأ مالك، وعامة كتب الآثار المسندة، فهذه لابد أن يكون لطالب العلم عناية بها.
* ويواجه طالب العلم كثرة النصائح بأفضل كتاب وأنفع كتاب، وليس في ذلك قانون مُطرد، وكل قارئ يذكر تجربته، فقد يذكر كتاباً أقل من غيره لحسن أثره عليه، ويغفل عما هو أفضل منه لذات السب. ليس كل عالم يستطيع أن يرسم لك منهجا للطلب، فبعضهم إن سئل أعطاك تجربته، وما يصلح له وليس ما يصلح لك.
هذا ما أردت الوصية به، والكلام يطول في هذا الباب، وزُبدة المقال: لا تشتت نفسك بكثرة النظر في المناهج، والقليل الدائم خير من كثير منقطع، ولابد من تحديد نقطة البداية ومعرفة نقطة النهاية، وبلوغها مهما كانت الأسباب، ولو كان في المنهج قصورا، ونهاية منهج مرجوح أنفع للطالب من بداية منهج راجح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(منهج مقترح لطالب كلية الشريعة)
كتبه: عبدالرحمن الصبيح
* أقول لو رجع بي الزمان، فإني سأولي المقررات الدراسية (الكتب وليس المذكرات!) عنايتي الفائقة، فهي أهم الكتب في كل فن، ولن أستعلي عليها لأنها مقررات دراسية حقها النسيان بعد أداء الامتحان!
ولكل عالم، وعلم كتب يدور عليها، والكتب المقررة كتب جامعة شاملة.
استعن بالمختصرات على ضبطها، وما يستغلق عليك لطوله أو صعوبته، فإن المختصرات المتقنة الأصيلة كفيلة بتعبيد الطرق، وسترى أنها تستوفي نسبة كبيرة من ذلك العلم..
سترى بعد مدة ومعايشة لكتب الفقه أن الروض المربع من أهم الكتب -إن لم يكن أهمها-، سترى أنك تعود إليه لتضبطه وتكرر النظر فيه.
وكذا روضة الناظر.
يقول ابن عثيمين أن الكتب التي اعتمد عليها في العقيدة ثلاثة: شرح الطحاوية، والتدمرية، ومختصر الصواعق.
ولا تنس كتاب التوحيد، فهو فريد في بابه، واعتن بمسائل الإمام، ففيها استنباطات دقيقة.
ويعينك على العلم والمقررات ضبط متن مختصر في كل فن.
مثلا: الزاد- الورقات- الاجرومية- الطحاوية- الواسطية ... الخ.
اعتنِ بهذه المتون، وكرر النظر فيها. ومن المستحسن أن تقرأها جميعاً مرة واحدة من دون شروحها في كل مستوى دراسي.
* إياك والتشتت، والتوسع، اضبط القليل تضبط الكثير، يقول ابن خلدون: إن كثرة التصانيف صارفة عن التحصيل. وقال العقاد: قراءة كتاب عشر مرات خير من قراءة عشرة كتب.
* الانشغال بالراجح في مرحلة مبكرة محرقة للفقيه، كثير من الطلبة يرجح أن الماء قسمين ويشنع على القول الآخر ولكنه لا يعرف كيف اختاروا أنه ثلاثة أقسام.
* لابد من العناية بمقصد العلم، فقبل معرفة الراجح في نفاذ تصرفات السكران لابد أن نعلم كيف نفذت وكيف لم تنفذ، ومن الأخطاء الشائعة في تعامل البعض مع أصول الفقه أنه يجعلها مرتعا للترجيحات الفقهية، إذ مقصود دراسة الأصول معرفة العلاقة بين الأدلة والقواعد العامة، التي تنتظم الأدلة في سلكها، والحصيف لا تستدرجه استطرادات العلماء قبل فهم القواعد والأصول.
* محرقة مريد العلم أنه يُصدم بمعلومات ومعارف هائلة، فيظن أنه أحاط بالعلم من جميع جوانبه، ويرى أنه بلغ النهاية وهو ما زال يتعثر في البدايات، ومن أسباب هذه الظاهره وقوعه على بعض ما يظنه عثرات الأكابر، فيستدرك على هذا ويتعقب ذاك، ويستغرب كيف فات الدليل الإمام على جلالة قدره، وهكذا يستمر مسلسل الغرور والتعالي، والأخطر حين ينعزل عن مصدر التلقي، ورغم ركام الغرور والتعالي فإن الحق قد يكون مع المُستَدرك عليه.
* الحلم والتأني: كلمة سر التعلم، فالمتعلم في أول خطوه، لابد له من الحلم على الأقوال، وعدم العجلة، ويقدم الفهم على الرأي. لابد من فهم أقوال العلماء والمذاهب كما أرادها أصحابها لا كما تراها. لا تقدم نَفَس المناظرة والمجادلة على نفس التعلم والتأمل. خُلق بعض الطلبة من العجل، ما زال في أول خَطْوِه، ولكنه يقرأ بنفس غضبية لا تعي ولا تفهم، يُخَطِئ ويناظر وهو لم يفهم القول، ولا كيف نشأ، ودليله في كل ذلك، أنهم خالفوا ما كان عهده، أو ما قاله شيخه.
* إياك وتقييم المعلمين وتصنيفهم، فالمرحلة التي أنت فيها مرحلة تعلم لا مناظرة، والمعلم قد يفيدك بعلمه، أو بالمقرر الذي يعلمه، إن أتقنته. دع مجادلة الشيخ ومناقشته، وأَحْسِن التأتي إليه، وحاول فهم نفسيته، وتَذَلل له، فالقلوب مغاليق لها مفاتيح ومغاليق، ولا يمنعنك سوء خلق الشيخ، أو انتمائه، أو سلوكه، من الاستفادة منه، ولا يزهدنك تبسطه وحرصه، فيه.
مُنع أحد أكبر طلاب ابن عباس وأكثرهم نباهة علم ابن عباس لكثرة اختلافه عليه، فيالخسارة ما ضَيَّع!
وذلك لأنه بدأ يرجح ويناقش شيخه في مرحلة التعلم، ويعلن ذلك، قارن هذا بموقف ابن عباس، كان له رأي فلم يفصح به إلا بعد وفاة عمر، قال: منعني مهابته. وكان حينها ملازما للفاروق، يحضر مجالسه، وبلغ عنده شأوا عظيما، حتى أنه كان يستشيره ويثني عليه، ويعلن الإعجاب به، حتى حسده شباب المدينة على تلك المنزلة التي نالها. كيف به لو كان أعلن المخالفة والترجيح والمجادلة، وليس المطلوب تغيير الآراء بحال.
والشيخ بشر، يعجبه الثناء والتقدير والاحترام والحرص على الطلب، وتقدير كلامه، وخدمته كذلك، لا سيما فيما يتعلق بأبحاثه العلمية، ففي ذلك خدمة للشيخ ونفع للطالب.
ما نال بعض طلبة المشايخ ما نالوه لوفرة علمهم وتميزهم عن سائر الطلبة، بل بحسن تأتيهم، والقلوب ما تآلف منها ائتلف وما تخالف منها اختلف.
* ويُستحسن القرناء الذين يعينون المرء على الطلب، ويشحذون همته للمنافسة، وهؤلاء القرناء لا يلزم أن يكونوا أخلاء، طباعهم متوافقة، وسجاياهم واحدة، وإنما قرناء جمعهم العلم. وهذا من أعظم ما يعين طالب العلم، أن يجد له من ينافسه، فيسبق هذا مرة وتسبقه أخرى، ويزهد بعض الطلبة عن القرين الصالح إذا لم يكن صاحبا، فللصحبة رجالها وللطلب رجاله، ففرِّق بينهما تفلح. ويصرف الطالب مصاحبة البطالين، الذين ينسيه أنسه بهم لذة الطلب والأنس به. وأشد ما يبتلى به قرناء الطلب التحاسد، فاصبر عليه.
* وأما المناهج التي اجتهد بعض الفضلاء في خطها، ومرحلتها، فهذه اجتهادات تخضع للميول والتجارب، وكذا أفضل كتاب في كذا وأنفع كتاب ... الخ، والغالب أن المرء يذكر ما كان أكثر تأثيرا عليه، أو ما تعارف عليه أهل الفن. والمقصود أنها اجتهادات، لا يلزم السير عليها، وفي بعضها تطويل لا داعي له، بل هو من أخطاء الطلب. والباحث يعجب أول الأمر بكثرة التفريعات، والمراحل، ولكنه إن رام التطبيق عجز عن ذلك، وخير المناهج ما يقدم النفع الكثير في الوقت القصير، والوسيلة السهلة المختصرة، وليس من شرط البرنامج الناجح حشر جميع ما ألف في الباب!
* وسأذكر لك بحول الله ما ينفعك في هذا الباب: لكل علم متون ابتدائية، ومتون نهائية، وكتاب جامع مقارن.
مثلا: الزاد أو الدليل أو العمدة= ابتدائي.
الروض= نهائي.
حاشية الروض أو المغني = جامع مقارن.
وهكذا في جميع العلوم، فتبدأ بالابتدائي حتى تتهيأ للنهائي، ثم تنظر في الكتاب الجامع المقارن.
بعدها تنظر في المطولات التي لا يستغني عنها طالب، كالأم، والمغني، وفتاوى ابن تيمية، والمحلى، والمجموع وغيرها، وفي هذه المرحلة لابد أن تكون كتب السنة وشروحها بتناول يدك.
وإن كنت ممن يريد الاعتماد على الروض في الفقه فلابد أن يكون الزاد على مقربة منك، وهكذا في كل متن كان أصلا لمتن آخر، أو كتاب كان أصلا لكتاب آخر، فمثلا: بعض عبارات روضة الناظر لا تتضح على وجهها إلا بالرجوع للمستصفى.
* والأصل في مرحلة المتون أن تكون مرحلة انتقالية، ينجزها المرء في أشهر معدودة، ثم ينتقل لما بعدها، ومن أخطاء كثير من البرامج أنها جعلت المتون غايات بحد ذاتها.
* وتنبه لبعض الشروحات المطولة لمتون المختصرة، فهذه موسوعات فقهية، خرجت بالمتن عن مقصوده، فهذه تؤخر لمرحلة متقدمة ولا يبدأ بها، كالممتع على الزاد.
وخلاصة الأمر: اختر من كل فن متن أو اثنين، ابتدائي يؤهلك للمتن المنتهي، ولا تكثر المتون على نفسك، وبعض العلماء كشيخنا الشيخ عبدالكريم الخضير حفظه الله ينهى تعدد المتون في الفن الواحد، فإن كان ولابد؛ فمنظوم ومنثور، ولكن لا يجمع نظمين ونثرين، ففي ذلك تشتيت للطالب. ووظيفة المتون: جمع أطراف العلم وأشتات مسائلة، ولذا سترى مستقبلا أنك تستقر على متن في كل فن، لعدة اعتبارات، إما سهولة عباراته، أو كثرة فروعه، أو لارتياحك له، وربما لحبك مؤلفه، ولكل مشربه، فتوليه عناية أكثر من غيره، ويجمع لك ما تناثر من العلم، وهذا لا تستطيع تحديده إلا بعد مدة وطول ممارسة ومقارنة، ورأيت بعض الأفاضل اعتمد الزاد في الفقه، وبعضهم الروض، ورأيت أحد كبار العلماء اعتمد عمدة الفقه! واعتمده: أي جعله عمدة له، يكثر مراجعته، ويدمن مطالعته، حتى تصبح له معه صحبه، فيتذكر العلم من خلاله.
* فإذا انتهيت من مرحلة المتون تنتقل للمرحلة الأهم، وهي الإبحار في مطولات العلم، بشرط أن تكون استوعبت المتن استيعابا جيدا، ففهمت المتن، وقرأت شرحا أو شرحين عليه، وعرفت مواطن الإجماع فيه، وآراء الجمهور، ومفردات المذهب، وهكذا، وأثناء إبحارك في مطولات الفقه، والتقاطك نفائس الجواهر والدرر، يجب أن لا تغفل عينك عن المتن، تراجعه بين الفينة والأخرى، وتقيد صوائدك عليه، من قواعد أصولية، وتقييدات، وتوضيحات، واستدراكات، وهلم جرا. وأثناء قراءتك للمطولات يجب أن تعتني بالصناعة الفقهية، والأدلة الكلية الإجمالية، أما البحث عن الفروع للإجابة على استفسارات فرعية، فهذه لا تصنع فقيها.
* ولأن الفقه تخصصك، فسأخصه مزيد عناية، تختلف آراء النُظَّار، منهم من يرى أنه لابد من التمذهب أولا، ويعنون بالتمذهب معرفة راجح المذهب، والمقارنة بين متون المذهب، وزيادات كل متن على الآخر ونحو ذلك، ولذا تجد مناهجهم طويلة النفس في متون المذهب. ورأيي أن هذه مرحلة متقدمة جدا، لا تلزم إلا من أراد أن يكون متخصصا في المذهب، وتأتي بعد الاطلاع على المطولات وجرد السنن والأخذ من الفقه بحظ وافر، وهي مرحلة اختيارية لا تلزم الطالب، ومن الخطأ جعلها مقدمة للنظر في المطولات، أو جعلها العتبة الأولى للفقيه.
فمن رام الفقه، فعليه ضبط متن (معتمد) يختاره، وقولي معتمد، أي معتمد لدى المذهب، فأستثني المتون التي تعبر عن أصحابها. فهناك فرق بين التأسيس على رأي فرد ورأي جماعة، والتأسس على مذهب يعني حيازة ربع الفقه، بخلاف التأسس على رأي فرد مهما علا شأنه، سواء كان السعدي أو ابن عثيمين أو حتى ابن تيمية، فهؤلاء يجب أن تأتي آراؤهم في المرحلة التالية. بعد التأسس على كتاب في المذهب -يفضل الزاد أو الروض لأن العناية بهما أكثر-، تبدأ بالإضافة والنقص والاستدراك والتعليل، ومعرفة وجوه الوفاق والخلاف والانفراد، فتضاف للأساس.
ولا يقال: لماذا التأسيس على الأقوال المرجوحة (الخاطئة!)، لأن الراجح والمرجوح أمر نسبي، ومعرفة المرجوح -في نظرك- معرفة لقول جماعة من العلماء، والترجيح معرفة لقول جماعة آخرين، فتكون عرفت قولين أو ثلاثة أقوال، كما أن معرفة ما تراه مرجوحاً تربية للنفس على الأناة، والحلم، والنقد ... الخ، ولو كان رأيا لشخص لقيل بتجاوزه، ولكنه رأي مذهب. والتأسس على ما سُمي راجحا تربية على رأي واحد بلا نقد أو نظر أو حتى اطلاع تام على الأقوال المطروحة، وكم من أقوال قيل عنها مرجوحة نُقلت فيها إجماعات، وحين ذُكرت لأصحاب مدرسة الراجح تنكروا لها، واستعظموا أن يكون في الرأي الذي ابتذلوه إجماعا لم يسمعوا به، وهم أهل الترجيح والنظر!
* ولابد من طريق رديف يعين الطالب، وينشطه إذا كسل، ويضيف لعلمه علوما، وللسانه ألسنا، ولعقله عقولا، ويحقق هذا القراءة في كتب الأدب، من شعر ونثر، وبلاغة، ولابد من حظ وافر من التاريخ والتراجم، ففي هذه تهذيب للسان والقلب، وتفهيم للعقل.
* وتعلم الأدب، أعني أدب النفس والعلم، مقدم على معرفة العلم، وكم عالم احترق علمه بسبب سوء أدبه، وخساسة طبعه، وهذا أمر مشاهد معلوم، فالواجب تأديب النفس والانشغال بالأهم على المهم. ويرى جمع من أهل الفضل أن مشكلتنا أخلاقية بالدرجة الأولى وليست علمية. وعدم التأدب يذهب ببركة العلم، وأنصح بكتب الخطيب، وجامع ابن عبدالبر. وإحياء الغزالي وتذكرة الكتاني، ولا يزهدك فيها سَنَن أهل الطريقة التي سلكوا بعض مسالكها، فمن أقوال الكتاني التي نقلها عن الغزالي: «واعلم أن خطأ شيخك أنفع لك من صوابك لنفسك»، وقد صدق. وفي مقدمة سنن الدارمي جواهر ودرر، ولا أعلم أن أحدا فاقه في هذا الباب.
* ولا يليق بطالب العلم أن يكون يومه خلوا من حديث الرسول ﷺ ، ولا قيمة للعلم بلا سُنة. والفقه معرفة الحكم بدليله. فاحرص على قراءة الحديث النبوي، وينصح العلماء بالبدء ببلوغ المرام ونحوه من متون الأحكام، وهذا خطأ. أو فيه قصور لأن الأولى أن يبدأ الطالب بما يزكي نفسه، ويرفع إيمانه. والمقصود قراءة المتون الحديثية، واقترح لهذا الاضطلاع على الكتب الأصلية كصحيح البخاري وبقية الستة، وموطأ مالك، وعامة كتب الآثار المسندة، فهذه لابد أن يكون لطالب العلم عناية بها.
* ويواجه طالب العلم كثرة النصائح بأفضل كتاب وأنفع كتاب، وليس في ذلك قانون مُطرد، وكل قارئ يذكر تجربته، فقد يذكر كتاباً أقل من غيره لحسن أثره عليه، ويغفل عما هو أفضل منه لذات السب. ليس كل عالم يستطيع أن يرسم لك منهجا للطلب، فبعضهم إن سئل أعطاك تجربته، وما يصلح له وليس ما يصلح لك.
هذا ما أردت الوصية به، والكلام يطول في هذا الباب، وزُبدة المقال: لا تشتت نفسك بكثرة النظر في المناهج، والقليل الدائم خير من كثير منقطع، ولابد من تحديد نقطة البداية ومعرفة نقطة النهاية، وبلوغها مهما كانت الأسباب، ولو كان في المنهج قصورا، ونهاية منهج مرجوح أنفع للطالب من بداية منهج راجح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق