05‏/08‏/2016

(المنهجية العلمية لدراسة التفسير) للشيخ/ د. مساعد الطيار


(كتاب: المنهجية العلمية لدراسة التفسير)
للشيخ/ د. مساعد الطيار

هذا الكتاب عبارة عن محاضرة ألقاها الشيخ 
بديوانية الدراسات القرآنية بمحافظة الطائف
بتاريخ 17/10/ 1430هـ. 
ثم تم تفريغها وعرضها على الشيخ حفظه الله 
فروجعت وزيد عليها أمورا مهمة.


بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ الشريط بتلاوة آيات بينات من قوله تعالى: ﴿قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى﴾ إلى قوله تعالى ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾.

الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسَلِّم على المبعوثِ رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فأحيِّيكم جميعًا بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرحبُ بكم في ديوانيتكم، ديوانية الدراسات القرآنية بمحافظة الطائف، فأهلًا وسهلًا بكم جميعًا، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

ويسعدنا ويشرفنا أن نستضيف في هذه الليلة المباركة عَلَمًا من أعلام الدراسات القرآنية، تميز ـ حفظه الله ـ بالتحرير والتأصيل والتجديد في مجال الدراسات القرآنية على وجه العموم، وفي التفسير وأصوله على وجه الخصوص، وقد أثرى المكتبةَ القرآنية بمؤلفاتٍ قيمة مُحَرَّرة، فمنها:

- «المُحَرَّرُ في علوم القرآن».
- و«فصول في أصول التفسير».
- و«التفسير اللغوي» (وهي رسالة الدكتوراة).
- و«شرح لمقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير».
- و«تفسير جزء عمَّ».
- و«وقوف القرآن وأثره في التفسير» (وهي رسالة ماجستير على وشك الظهور إن شاء الله).

وأنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم، وجُمِعَت له مقالاتٌ قيمة في كتاب:

«مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير».

ومن قرأ في مثل هذه المصنفات علم مقدار ما فتح اللهُ عليه جل وعلا من علم رصين، وتحرير دقيق، وبحث علميٍّ متين، وله العديد من الأشرطة والدورات العلمية والمحاضرات التي ذاع صيتها وانشر بين طلاب العلم نفعُها، كما أن له إسهامات كثيرة إعلامية في عدد من القنوات الفضائية، والإذاعية ومواقع الشبكة العنكبوتية، وفي «ملتقى التفسير» على الشبكة على وجه الخصوص.

ومما عُرف عن الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ البعد عن التقليد، والنقد البناء، وفق الضوابط العلمية، وغزارة الأفكار العلمية والبحثية.

وبعد، فهذا غيض من فيض من سيرة فضيلة ضيفنا الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض، نستضيفه الليلة ليحدثنا عن موضوع بالغ الأهمية، عن:


«المنهجية العلمية بدراسة التفسير»

وهو موضوع للشيخ فيه اهتمام بالغ، من خلال عدد من الدورات التطبيقية للمنهج العلمي لدراسة التفسير، فعن هذا الموضوع، والمراد منه، وأهميته، وفائدته وثمرته يحدثنا فضيلة الشيخ في هذه الليلة.

أهلًا وسهلًا بك أبا عبد الملك، ضيفًا كريمًا، وأخًا عزيزًا، أهلًا ومرحبًا بك بين أحبابك وإخوانك، وندعوكم الآن إلى أن تنثروا علينا من شريف علمكم، وكلُّنا أُذُنٌ صاغية، سدد الله قولكم، ونفع بعلمكم.


بداية كلام الشيخ:


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أحمدُ الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي وفقني لأن أكون مع إخوة نتطارح موضوعاتٍ علمية فيما يتعلق بأشرف كتاب، وهو كتاب الله سبحانه وتعالى.

وقبل أن أبتدئ هذه المطارحة العلمية معكم، أحب أن أثني على هذه الفكرة الرائدة والرائعة في أن يكون للمتخصصين في العلوم الشرعية مجالس وديوانيات يلتقون بها ويتطارحون في هذه الديوانيات شئونهم الخاصة، وكما تعلمون لكل تخصص همومه الخاصة وتحتاج إلى مثل هذه اللقاءات والتجمعات لمطارحة الأفكار.

وكانت هذه الفكرة تراودنا في الرياض، ولكن المبادرة لعملها تأخرت كثيرًا، ففرحت بوجود هذا النموذج لما طرحه الأخ عبد الله ـ حفظه الله ـ في الطائف، وعَمِلنا بعد ذلك في الرياض في مركز التفسير لقاءً شهريًّا لكنه لم يتسم بهذا الطابع الذي ترونه الآن من القضايا العلمية ، فذهب إلى قضايا تنظيرية تتعلق بالتَّنْظِير لمستقبل الدراسات القرآنية، وهو مجال نحتاج إليه، وهذا جانب من التنوع في طرح الموضوعات في شتى المجالات المتعلقة بالدراسات القرآنية.

فأنا أقول: نحن تَبَعٌ لكم في هذا المجال، وأقول بأنكم قد شَحَذْتُم هِمَّتنا لكي نقومَ بمثل هذا العمل في الرِّياض، فأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعل ما نقوم به في هذه المجالس التي نقوم بها في الرياض، أن يردَّ غنيمتها وخيرها لأخي عبد الله ولمن كان معه ممن فتحوا هذه الديوانية.

أشكره مرة أخرى شكرًا خاصًّا على ما قدَّم، ولعله يعذرني في أن أعترضَ على بضع الأوصافِ التي ذكرها فيَّ، فأنا أقولها ـ ليس من باب التواضع الذي يراد به المدح ـ ولكني أقولها حقيقة أنني في نفسي لم أرَ مثل هذه الأوصاف التي ذكرها، وإن كنت دائمًا أقول أن كلَّ واحدٍ لا يستطيع أن يردَّ عن نفسه المبالغة إذا أراد أن يمدح غيره بما يرى فيه من محاسن ، لكنني أتكلم عن نفسي صادقًا، وأرجو أن تأخذوا هذا عنِّي، أني أعتبر نفسي باحثًا، ولا أشك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد منَّ عليَّ بأن وفَّقَني إلى التقاط بعض النقاط التي غَفَل عنها بعض أهل التخصص، فأبرزتها، فظهر فيها إثارة علمية، وصارت تُتداوَل وتُناقش، هذا أجده ـ ولله الحمد ـ ولكن أرجو أن أصل إلى ما يُذكَر عنِّي، وأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يغفر لي ولكم جميعًا في مثل هذه المقامات التي يقع فيها مثل هذا الثناء، وأنتم تعلمون أن النبي صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم قد أرشدنا إلى أن لا يُثْنَى على الشخص في وجهه، وأنتم تعلمون أن ذلك قد يكون فيه نوع من المزلة لبعض الأقدام، فأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينقذني وإياكم من مثل هذه الأمور.

أيًّا كان الأمر نرجع مرة أخرى إلى ما طرحه أخي عبد الله وطلبه في أن يكون اللقاء عن منهجية تَعَلُّم التفسير، وكيف يمكن أن يُتَعَلَّمَ التفسير.

قد يقول قائل: قبل أن نبتدئَ في هذه المحاضرة، وهو سؤال مهم يُطْرَح كثيرًا، وأنا أحس أن فيه نوع من الحرج، ولكن مَن يشاركني في التخصص يمكن أن يُوَافِقَنِي إلى حد بعيد في أننا حينما درسنا علم التفسير في الجامعات لم نخرج بحصيلة يمكن أن نقول أننا فهمنا أسس التفسير، وأصوله، ومناهجه، وطرائقه، ولكن كان من مِنَّة الله عليَّ أن بدأت أقرأ في تفسير الطبري ـ بالذات ـ بعد أن أخذت بعض أفكار وأصول من كتاب شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ لـ «مقدمة أصول التفسير»، أو من بعض تعليقات ابن القيم، أو تعليقات الشنقيطي، فكنت قررت في فترة ـ كما تعلمون هي فترة مرت علينا جميعًا إبَّان فترة الحرب العراقية على الكويت كانت سنة جاء فيها رمضان في عطلة غير مسبوقة وغير مقصودة لأجل الحرب.

فأخذت معي تفسير الطبري، وبدأت أقرأ في هذا الكتاب، فوجدت أن علم التفسير كلَّه في هذا الكتاب، وأن من أراد أن يتعلم التفسير فعليه أن يقرأ في هذا الكتاب لكي يتخرج به، ويعرف كيفية التعامل مع أقوال المفسرين، وكيفية التعامل مع الآيات، وكيفية الاستنباط، وكيفية الجمع بين الأقوال، هذا شيء لم نجدْهُ لمَّا كنَّا ندرس في الدراسات الجامعية، وأسفت كثيرًا على هذا.

بل مما يجعلني آسف كثيرًا، أنني لما بدأت أتمسك بهذا الكتاب وتقدمت إلى مرحلة الدكتوراه، في جامعة الإمام، سألني أحد مشايخي، وهو من أكثر المشايخ الذين دَرَّسُونا في الدراسات العليا واستفدنا منهم، سألني سؤالًا قال:
إذا أردت أن تُحَضِّر للطلَّاب، فما الكتب التي سترجع لها؟
فقلت له:
أرجع إلى ثلاثة كتب رئيسة: تفسير الطبري، والتحرير والتنوير، ومفردات الراغب الأصفهاني.

فعاب عليَّ رجوعي إلى تفسير الطبري، وقال:
ما الفائدة من تفسير الطبري؛ فتفسير الطبري مجرد آثار، فأنا كنت أظن أنه يستخبر، فقلت: لا، تفسير الطبري فيه آثار، وفيه آراء.
قال: أبدًا، تفسير الطبري أثري، وليس فيه آراء.

فهذه من مثل هذا الشيخ الذي كان يدرسنا في مرحلة البكالوريوس وكذلك في مرحلة الماجستير، أحدثت عندي شيئًا من الألم في أن يكون أحد أساتذتي ممن مضى عليه عمر وهو لا يعرف هذه القيمة الكبيرة لهذا التفسير.

أبتدئ هذه المحاضرة بالتنبيه على أهمية هذا الكتاب بالذات، وأن من عرف طريقة القراءة في هذا الكتاب فإنه سيستفيد فائدة عظيمة في فهم التفسير، وطريقة التعامل مع المفسرين.

أما قضية «المنهجية»، فكما تلاحظون أيضًا أن علم التفسير ليس كبعض العلوم التي وُجِدت فيها متون، ووُجِدت فيها ترتيبات، ففي بعض العلوم يتخرج الطالب بمتن، ثم ينتقل إلى متن آخر، ثم ينتقل إلى متن ثالث، وكتب التفسير ـ كما تلاحظون ـ في مُجْمَلِها تكون بين مُطَوَّلة، ومُتَوَسِّطَة، ويقل كثيرًا أن يوجد هناك مختصرًات، وإذا أردت أن تنظر إلى المختصرات التي جُعِلَت لكي تكون بدايات لمن أراد أن يعرف التفسير، ستجد أول كتاب قصَدَ مؤلفه أن يكون كذلك:
كتاب «الوجيز للواحدي»، ولكن حينما تقرأ في هذا الكتاب وتُمَحِّص النظر فيه ستجد أنه لا يُغْنِي حتى للمبتدئ، لأنه أشبه ما يكون أحيانًا بمعاني الكلمات، وبعض الآيات أحيانًا لا يتعرض لها. فلا يكاد يفيد.

والواحدي توفي في القرن الخامس، واستمر الزمن طويلًا ولا يكاد يوجد كتاب يمكن أن يكون عمدة، ويرجع إليه المتخصصون، وإنما كانت طريقة العلماء:
القراءة في هذه المُطَوَّلات والانتخاب منها، كما سأذكر ـ إن شاء الله ـ بعض التفاسير التي كانوا يعملون عليها بالشرح والتعليق .

لما ظهر كتاب الزمخشري ( ت : 438 ) ـ وأنا أريد أن أذكر هذا التاريخ لأنه يهمنا ـ عُنِي العلماء به من جانبين:
- من جانب البلاغة.
- ومن جانب الاعتزال.

فإما أن يدرسُوه ليبينوا ما فيه من البلاغة أو يضيفوا إليه، وإما أن يدرسوه ليردوا عليه اعتزاليته، وأكثر من قرأ هذا الكتاب هم العلماء الأشاعرة، تصدُّوا لهذا الكتاب، وكانوا يقرءونه قراءة فكٍّ وشرح، وليست قراءة عابرة، بل يتناقشون فيه، ويخرجون بعد ذلك بحواشي وتعليقات عليه.
وهو من الكتب التي قد كثرت عليها الحواشي لهذين السببين اللذين ذكرتهما.

فهو أول كتاب قعَّد للبلاغة القرآنية، أما قبله فتكاد تكون مسائل البلاغة القرآنية منثورة نثرًا لكن هذا الكتاب قصد أن يدرس البلاغة القرآنية، فكان له ـ بسبب هذا الجانب ـ اعتبار عند العلماء في أن بدءوا يقرؤونه ويستفيدون منه، ويفرعون عليه، ويضيفون إليه من هذا الجانب.

الجانب الآخر ـ الجانب الاعتقادي ـ وكانت قراءتهم له في مجال الاعتراض والرد، وكما هو معلوم أن علماء الأشاعرة كثيرًا ما تصدوا لعلماء المعتزلة، فكان هذا الكتاب مجالًا من المجالات التي يكون فيها المناقشة والمناقضة في مجال الاعتقاد.

بعده بسنوات ـ يعني في القرن السابع تقريبًا ـ جاء كتاب البَيْضَاوي، والبيضاوي أصولي، وقد أسس كتابه على طريقةٍ قويةٍ في التَّعْبِير، وفيها نوع من ضَبْطِ العبارة، ووفق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لهذا الكتاب أن تتبناه الدولة العثمانية، فعلماء الدولة العثمانية تبنوا هذا الكتاب، وجعلوه منهجًا يُدَرِّسُونه، ولهذا كَثُرَتْ حواشي علماء الأتراك على هذا الكتاب، والسبب هو أنه كان منهجًا عندهم، ولهذا قيل ـ وهذه معلومة أنا أذكرها لست متأكدًا منها لكني سمعتها ـ:
أن هناك رتبة في الأستاذية لا تُعطى إلا لمن يشرح تفسير البيضاوي، وبسبب هذا كثرت عليه الحواشي.

ونحن لو تأملنا هذا الكتاب لوجدناه كتابًا صعبًا لا يمكن أن يقرأه الطالب المبتدئ، ومن أراد أن يعرف صعوبة الكتاب يقرأ في بعض الحواشي بينظر كيف كان العلماء يفكون عبارته .

بعده جاء في القرن العاشر كتاب «الجلالين» جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، ومن باب الفائدة:
جلال الدين السيوطي كتب كتابه وهو في العشرين، وأكمل كتاب شيخه جلال الدين المحلي، المحلي كتب سورة الفاتحة، وكتب من سورة الكهف إلى نهاية القرآن، ثم توفي بعد أن بدأ في الفاتحة، فأكمل السيوطي من البقرة إلى أن انتهى إلى رأس سورة الكهف.

هذا الكتاب أيضًا اعتمده علماء الأزهر في مصر، وصار أيضًا منهجًا تَدْرِيسيًّا، فكثرت أيضًا عليه الحواشي، وهذه أحد أسباب كثرة الحواشي على هذا الكتاب.

هذه الكتب الثلاثة لا يمكن أن نعدها متونًا تصلح لطالب العلم المبتدئ، وإنما هي متون يقرأ فيها العلماء، وأن أستغرب من بعض مَن ينصح بعض الطلاب المبتدئين بقراءة مثلًا تفسير الجلالين، هذا التفسير في نظري لا يُناسب طالب العلم المبتدئ وفهمه منه سيكون قليلًا، لأن فيه تَلْغِيزًا في العبارة في بعض القضايا مثل قضية القراءات، وهو كتاب يحتاج إلى فكٍّ وشرح وتعليم.

هذا باختصار نظر سريع جدًّا لبعض الكتب التي عُنِي بها العلماء، أما كتاب الواحدي الذي جعله للمبتدئين لم يحظَ بالقبول على مر السنين، إنما الذي حظي بالقبول عند العلماء وصار يُتَدَارسُ ويُتَدَاولُ هذه الكتب الثلاثة.

أما اليوم فنحن نحتاج إلى ما نغربل ما عندنا من الكتب، والكتب ـ ولله الحمد والمنة ـ كثيرة جدًّا الآن، ولو أردت أن تقسمها لوجدت أنك يمكنك أن تقسمها إلى أقسام كثيرة، والكتاب الواحد يمكن أن تقسمه إلى أكثر من قسم، مرة تجعله في الاتجاه الفقهي، ومرة تجعله في الاتجاه اللغوي، ومرة تجعله في الاتجاه العَقَدِيّ، على حسب ما هو موجود الآن من دراسات المناهج والاتجاهات.

المرحلة الأولى لمرحلة المبتدئين:
وهذه التي يجب أن نُعْنَى بها، وأيضًا أقول لطالب العلم، خصوصًا الذي في المرحلة الجامعية أن ينتبه إلى هذه المرحلة، وأن يُؤسِّس نفسه من خلال هذه المرحلة ويبتدئ بها، وألا يظن أنه تَقَدَّم على هذه المرحلة، وأنه ليس بحاجة لها ؛ لأنَّه إذا تَكَشَّف ما عندَه من العِلم فإنه سيرى أنه ليس عنده شيء، والسبب هو أن طريقتنا في القراءة فيها مشكلات ، منها أنها طريقة قراءة فقط ولا تتسم بالتَّقييد، ولسنا حفَّاظًا مثل من وهبه الله القدرة على الحفظ، لذا نحتاج أن نجعل التقييد في كل مرحلة من مراحل التعلم والقراءة .

والكتاب الذي نريد أن نصفه لهذه المرحلة كما يأتي :
1 ـ أن يكون الكتاب مُستوعِبًا لمسائل التفسير، قدر الطاقة، أي يكون فيه أسباب النزول، وبيان المفردات والمعنى الإجمالي وغيرها .
2 ـ أن يكون سهل العبارة، لا يحتاج إلى فكٍّ.
3 ـ أن يكون مختصرًا، لكي يَقْصُرَ زمنُ قراءته.
فإذا وُجِدَ كتابٌ بهذه المثابة، فأنا أعدُّ أن هذا هو الكتاب الذي يمكن أن يكون متنًا يبتدئ به الطالب.

إن لم يوجد متنٌ بهذه المثابة، أو قال الطالب إن هذا المتن قرأته وانتهيت منه، وأريد ما هو أفضل منه، فيمكن أن ينتقل إلى بعض الكتب المتوسطة التي لا يقع فيها إشكالات كثيرة، ولعلِّي أذكر إن شاء الله بعض هذه الكتب.

طريقة القراءة في الكتاب الذي ذكرته الآن ـ ويمكن أن نذكر بعض الكتب له ـ:
من أهم قواعد القراءة والتي نغفل عنها كثيرًا، هي أنه يجب أن نقرأ الكتاب كاملًا.

هل القراءة الواحدة تكفي، يعني: قراءة التفسير مرة واحدة تكفي؟
أقول: لا، نحتاج إلى قراءة التفسير أكثر من مرة، بحيث أن الطالبَ يَسْتَظْهِرُ ـ ولا أقول يحفظ وإنما يَسْتَظْهِرُ ـ جملة المعاني الموجودة في هذا التفسير، بحيث أنه لو سُئِلَ :
ما معنى هذه الآية؟
يستطيع أنه يعبِّر عن هذا المعنى من خلال ما استظهره من هذا الكتاب, ولا يمكن أن يستظهر هذا إلا معَ مُدَاومة القراءة مرة بعد مرة.

ولو رجعنا إلى سير بعض العلماء، سنجدُ أن هذه الفكرة ـ وهي فكرة إعادة الكتاب أكثر من مرة ـ موجودة عندهم، فيجب أن ننتبه إلى هذه القاعدة، وهي: (أن نقرأ الكتاب كاملًا، وأن نكرر قراءته مرة بعد مرة) لنستوعبَ ما في هذا الكتاب من التفسير.

من الأشياء التي ينتبه إليها المبتدئ خلال القراءة:
ترك الإشكالات ؛ لأن الهدف في هذه المرحلة هو أن يفهم المعنى الإجمالي، وليس أن يفهم جميع ما يتعلق بالآية من مشكلات ومسائل.

وعليه أن يجمع هذه المشكلات والمسائل في دفتره ويسأل عنها متى ما تسنى له ذلك ، لكن لا تكون قاطعة له عن هدفه في إتمام القراءة وإدراك المعنى .

وتحديد الهدف مهمٌّ جدًّا في هذه المرحلة، وهي أنَّا نقول له:
المطلوب منك الآن أن تفهم المعنى الإجمالي، بحيث أنَّا لو قلنا لك:
ما معنى قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول﴾؟
فإنك تعطينا المعنى الإجمالي، لكن حينما نريد أن نحلل لفظة (الأنفال) والأقوال التي قيلت فيها، فإن هذا ليس في المرحلة الأولى التي نطالب الطالب فيها أن يفهم المعنى العام.

من القضايا ـ أيضًا ـ التي يمكن أن ينبه عليها:
أنه قد يقول قائل: أنا لي قراءات أخرى وأستفيد فوائد من كتب التفسير أو غيرها مرتبطة بالآيات، فكيف أتعامل مع هذه الفوائد التي أستفيدها خارج قراءتي لهذا التفسير؟

والجواب: هو تقييد هذه الفوائد في مَحِلِّها من التفسير الذي بين يديك، بمعنى أن هذا التفسيرَ سيكونُ متنًا بالنسبة لك تُضِيفُ إليه الفوائد مرةً بعدَ مرة.

وهذا الأسلوب سأذكر له مثالًا من الأمثلة الموجودة عندنا في السَّاحة، مثل كتاب الجبل (حاشية الجمل على الجلالين) لو تأملنا طريقة الجمل ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه سنجد أنه جعل كتاب الجلالين أصلًا وأضاف إليه فوائد، ولهذا تجدونه يأتي بكلام، ثم يقول: انتهى. شيخنا، انتهى. كذا، فهو يذكر فوائد يعلقها على الجلالين ، ولا يحرص على فكِّ عبارته وشرحها كغيره من شروح الجلالين.

هذه الفكرة ـ وهي فكرة جمع الفوائد في مكان واحد ـ مهمة جدًّا لكن لا تجعلها هي الأصل الآن، وإنما الأصل هو استظهار هذا الكتاب الذي بين يديك، فإذا وقعت على فائدة ما خلال قراءاتك الأخرى، فاجعلها في مكانها من هذا الكتاب الذي بين يديك.

هذا تقريبًا باختصار طريقة القراءة في هذه المرحلة، وكما قلنا أن أهم شيء هو الهدف وهو بيان المعنى الإجمالي .

الكتاب المُعْتَمَد لهذه المرحلة :
يُحرص على أن يكون كتابًا مختصرًا ميسرًا، فإن لم يوجد فيكون من الكتب المتوسطة التي لا تحمل إشكالات كثيرة ، بحيث تتعب الطالب وهو يقرأ.

من الكتب التي يمكن أن تطرح في هذا المجال للمبتدئين، أطرح دائمًا كتاب «التفسير الميسر» الذي خرج عن مُجَمَّع الملك فهد ككتاب أولي؛ لأن هذا الكتاب فيه ميزة مهمة جدًّا هو أنه يتجه إلى المعنى الإجمالي مباشرة، وإن كان لا يشمل جميع مسائل التفسير مثل أسباب النزول أو بيان المعاني أحيانًا من جهة اللغة، لكنه ـ على الأقل ـ يعتبر لَبِنَة أولى لفهم المعنى الإجمالي، ما دمنا قلنا أن الهدف الأولي للقراءة للمبتدئ هو فهم المعنى الإجمالي، فإن هذا الكتاب قد اعتُنِيَ به عناية كبيرة جدًّا.

وهذا الكتاب مرَّ على لِجَان متعددة ، وليس عملا فرديًا ، وهذه ميزة مهمة لهذا الكتاب .

وأيضًا الطبعة الجديدة التي صدرت الآن، حُسِّن فيها هذا العمل أكثر، وضُبِطَتْ فيه بعض القضايا الفنيَّة التي لم تكن قد ضُبِطَت فيما قبل، وليس فيه إشكالات علمية كما قيل عنه، بل هي كلها مجالات في الاجتهاد، مثلًا أن آية فسروها في هذا الموطن بكذا، ثم عبروا بتعبير آخر، فرأوا توحيد تعبيرات التفسير ، أو بعض العبارات أزالوها وأضافوا عبارات أخرى بدلًا منها.

وأقول هذا الكتاب لمن أراد أن يدخل في المرحلة الأولى كتاب مهم ونَفِيس في أن يبتدئ به.

هناك أيضًا كتاب درجته أعلى قليلًا، ومؤلفه اجتهد أن يشابه أسلوب البيضاوي ولكنه أقل منه وأقصر في هذا، وهو: «جامع البيان» لمعين الدين الصفوي، وقد انتشرت طبعته الأخيرة التي طبعت في الكويت ، لكن وقع فيها بعض الأخطاء، ويمكن أن يعتبر في هذه المرحلة ، مع إشكالات قليلة موجودة فيه .

ومن يرى أن «التفسير الميسر» بالنسبة له أقل من المرحلة التي يريدها، يمكن أن يجعل كتاب «جامع البيان» للصفوي أصلًا يعتمد عليه ويضيف إليه.

وللمؤلف منهج ورموز بينها في أول الكتاب يمكن أن يتعرف عليها الطالب.

من الكتب المتوسطة التي يمكن أيضًا أن يبتدئ بها الطالب :
من تفاسير المتقدمين: اختصار تفسير يحيى بن سلام لابن أبي زمنين وهو كتاب مغمور، لكنه من الوضوح بمكان ويمكن الاستفادة منه، أو كذلك تفسير ابن المظفر السمعاني، وإن كان يذكر الأقوال ، وهي مرحلة لا يحتاجها طالب العلم المبتدئ .

ومن تفاسير المعاصرين: أيسرالتفاسير لأبي بكر الجزائري ، وأضف إلى ذلك تفسير السِّعْدِي .

وهذا التفسير ـ مع أنه لقي قبولًا عند الكثيرين ـ أُحب أن ننتبه إلى مسألة مهمة، قد تمنع الطالب المبتدئ من الاستفادة منه في إدراك المعنى الإجمالي للآية على وجه التحديد ، وهي أن أسلوب الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ الذي سلكه، هو أسلوب إنشائي، والطالب حينما يقرأ كلام الشيخ، يقرأ كلامًا إنشائيًا، وهو يريد أن يعرف المعنى ولا يستطيع أن يصل إليه، والسبب هو الأسلوب الإنشائي الذي سار عليه الشيخ.

هذه المشكلة عولجت في التفسير الميسر، لكن عندنا مشكلة لم تُعَالج، لا في التفسير الميسر، ولا في تفسير الشيخ السعدي ، وهي المعنى اللُّغويّ الدقيق للفظة القرآنية، هذه لم يقع معالجته لا في هذا ولا في هذا، ولهذا نقول:
في هذه المرحلة يمكن أن يضيف طالب العلم له كتابًا في غريب القرآن لكي يتعرف على معنى الألفاظ من جهة لغة العرب، فيكون عنده الآن المعنى اللغوي للفظة من جهة، ومن جهة أخرى يكون عنده المعنى السياقي الذي يريده في مثل التفسير الميسر، أو غيره من هذه الكتب، وهذا جانب مهم جدًّا.

ما هو الكتاب الذي يختاره في تفسير غريب القرآن؟
هناك كتب كثيرة، وفي الغالب كتب غريب القرآن متقاربة، إلَّا الكتب المطولة مثل كتاب:
«المفردات» للراغب الأصفهاني.
أو «تفسير غريب القرآن» لأبي بكر الرازي صاحب «مختار الصحاح».
أو «عمدة الحفاظ» للسمين الحلبي.

حيث تعتبر كتب مطولة في كتب الغريب، لكن لو أُخذ أي كتاب آخر مثل:
«تحفة الأريب» لأبي حيان وهو مختصر جدا.
أو «تفسير غريب القرآن» لمكي.
أو غيرها من هذه الكتب التي نجدها موجزة، يمكن أن يستفيد منها طالب العلم.

ويغلب على كتب غريب القرآن: السلامة من المشكلات التي يسأل عنها طالب العلم كثيرًا، يعني: يغلب عليها السلامة سواء من جهة الاعتقاد أو غيرها من القضايا الأخرى.

فإذًا، إذا أضيف في هذه المرحلة كتاب في غريب القرآن تكون الآن عندنا الدائرة قد اكتملت في أنَّ عندنا هدف، وعندنا وقت للكتاب المُنتخَب، وعندنا أيضًا طريقة لهذه القراءة، وعندنا مجموعة من الكتب يمكن أن تكون في هذه المرحلة .

هذه المرحلة ليس لها زمن محدد، فلا يقول طالب العلم: كم نجلس في هذه المرحلة؟
ليس لها زمن محدد، لأن المسألة مرتبطة بكيفية استفادة الطالب، والطلاب يختلفون من طالب إلى آخر في سرعة الاستفادة، والوصول إلى المعلومة، والحصول على الفهم التام، ولهذا لا نقول هنا أن هذه المرحلة يمكن أن تجلس سنة أو سنتين، بل هي على حسب ما يستطيعه الطالب.

وأنا ـ ولله الحمد والمنة ـ ألاحظ بعض الطلاب الآن عندهم اجتهاد، وأيضًا عندهم حرص ودَأَب، وعندهم تخطيط، حتى إنه يكون أحيانًا تخطيط للساعات، وإن كنت أخشى على مثل هذا أن يكون أحيانًا فيه مشقة، ولهذا أنا أقول اربطوا أنفسكم بالتخطيط الأسبوعي، أي أن يقرأ ـ على سبيل المثال ـ كل أسبوع جزءً ما ، يعني قرأه اليوم أو قرأه في ثلاثة أيام أو في أربعة أيام، أفضل من أن يحُد نفسه بطريقة معينة فقد يترك كل الشيء، لكن يجتهد ألَّا يشق على نفسه وأن يكون مواظبًا على قراءته؛ لأن من أكبر العيوب التي نقع فيها هي الانقطاع عن مثل هذه الأعمال، لكن الحريص هو الذي يأخذ قليل العمل ويداوم عليه ، كما أشار الرسول صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم إلى أحب الأعمال إلى الله قليل العمل مع المداومة عليه.
وقليل العمل مع المداومة هو الذي سيثمر ثمرة كبيرة جدًّا.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة السالكين في هذا العلم:
أي أنه دخل في التخصص، وقد قرأ جملة من كتب علوم القرآن، وكان قد قرأ التفسير على الطريقة التي ذكرتها أولًا.

وهذه المرحلة لو تأملنا، سنجد أن كل من دَرَس في الدراسات القرآنية يمكن أن يكون دخل في هذا التوصيف الذي ذكرته .

هذه المرحلة يمكن أن نقسمها إلى مرحلتين، ويمكن أن ندمج المرحلتين معًا.

أهم أهداف هذه المرحلة:
الأول: معرفة أصول التفسير.
ثانيًا: معرفة الأقاويل في التفسير.
يعني: معرفة أقوال المفسرين، ومعرفة أصول التفسير.

لماذا أقوال المفسرين، ولماذا أصول التفسير؟
لأنه في المرحلة الأولى أخذ التفسير على معنًى واحد، وهو الآن سينتقل إلى مرحلة ثانية، يتعرف على أن هذه الآية أو هذه الجملة، أو هذه اللفظة فيها أكثر من قول عند المفسرين, وأن ما ذُكِرَ له هو انتخاب، وترجيح من صاحب هذا التفسير الذي كان يقرأ فيه، وذكر له وانتخب له هذا القول، هنا الآن تعرَّف على أنه يوجد أكثر من قول.

ولا شك أن من أكبر ما يعترض طالب علم التفسير هو كثرة الأقوال، فكيف يستطيع أن يتعامل مع الأقوال؟
الجواب : أن يعرف أصول التفسير.

فإذن هذه المرحلة يمكن أن نجعلها مندمجة مع بعض، إذ لو قلنا له تعرَّف على أقوال المفسرين، لن يكون هناك كبير فائدة إلا أنه في هذه المرحلة يعرف أن هذه الآية فيها عشرة أقوال، وهذه الآية فيها ثلاثة أقوال، وهذه الآية فيها ليس فيها إلا قول واحد، فلن تكون مفيدة أو مشجعة له في أن يستمر في علم التفسير.

وبناءً على هذا نقول له إذن: حاول أن تدمج مع هذه قضية التعرف على أصول التفسير.

أهم ما يجب أن يعرفه طالب علم التفسير في هذه المرحلة فيما يتعلق بأصول التفسير هي:
ـ طرق التفسير، المعروفة بتفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال السلف، وباللغة.
ـ وأسباب الاختلاف في التفسير.

وهذه من أهم ما يتعلق بأصول التفسير؛ لأنه بمعرفته لأسباب الخلاف سيظهر عنده مُوجِبَات الأقوال، يعني: ما هو الُموجب لهذا القول، لماذا قال ابن عباس بهذا القول، ولماذا قال قتادة بقول مخالف له، فيجد أنه حينما يعرف أسباب الاختلاف أنه استطاع أن يعرف موجبات هذه الأقوال، ومن أين صدرت.

وسأذكر مثالًا لذلك في تفسير: ﴿يوم يكشف عن ساق﴾: معلوم أن ابن عباس وتلاميذه ذهبوا إلى أن المراد أن القيامة تكشف عن شدة وهول وكربة، وهذا التفسير لُغَوِيَّ، يعني مأخوذ من اللغة.

آخرون قالوا: ﴿يوم يُكشف عن ساق﴾ قالوا: يكشف ربنا عن ساقه واستدلوا بالحديث الذي رواه الإمام البخاري: «يكشف ربنا عن ساقه»، وهذا مصدره الآن الحديث النبوي.

إذن الآن إذا أردنا أن نبحث: ما هو سبب الاختلاف؟
سبب الاختلاف هو اختلاف المصدر، فالذي اعتمد اللغة مصدرًا فسره بهذا التفسير، والذي اعتمد الحديث النبوي فسره بهذا التفسير.

وفي هذه المرحلة أتعرف على هذه الأسباب، وأعرف أنه ما يخرج من هؤلاء ـ خصوصًا السلف ـ ما يخرج منهم قول إلا وهناك مُوجِب أو سبب له، منها مثلًا ما ذكرته لكم.

ومن الأسباب ما قد تكون أسباب خفية، وهي أشبه بعلل الحديث، يطلع عليها المُتَمَرِّس في علم التفسير، ولا يطلع عليها الذي يقرأ قراءة سريعة، على سبيل المثال:
نجد مثلًا في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ يُورِد الطبري عن الزهري قال: «الإيمان : العمل» فقط.

لماذا فسَّر الزهري الإيمان بالعمل؟
لأنه أراد أن يرد على المرجئة، لأنك إذارجعت إلى التاريخ في تلك الفترة، تجد أن الإرجاء قد برز وظهر، فيظهر لك بذلك :

ما هو موجب هذا القول؟
ما هو سبب القول به؟
ما هو سبب الاختلاف في التعبير عن تفسير الإيمان؟

وستجد أن القول بالإرجاء هو سبب ومُوجِب لمثل هذا القول.

من أصول التفسير المهمة: أنواع الاختلاف:
وهي التي اختصرها شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ باختلاف التنوع واختلاف التضاد، وهي التي ذكرها ابن جُزي الكلبي في اختلاف اللفظ والمعنى، وهي أيضًا التي ذكرها الشاطبي في موافقاته، ولكنه لم يفصلها مثل ما فصلها هؤلاء، ولكنه أيضًا نظَّر لها .

ومعرفة أنواع الاختلاف وما الذي يؤول إلى قول واحد، وما الذي يؤول إلى أكثر من قول، وإذا آلت الأقوال إلى أكثر من قول هل يمكن الجمع بينها على سبيل التنوع، أو هي تتضاد بحيث لا بد من الترجيح= كل هذه تحتاج إلى دِرْبة وممارسة، وسأذكر لكم أثرًا من كتاب الإمام ابن جرير الطبري يفيد كثيرًا جدًّا في هذا الباب، وهو باب أنواع الاختلاف، يعني: كيف نتعامل مع الاختلاف؟

من القضايا المهمة: قواعد الترجيح:
وقد خُدِمْنَا بها ـ ولله الحمد والمنة ـ بكتابة الدكتور حسين الحربي ـ حفظه الله ـ، وكذلك بكتابة الدكتور خالد السبت في قواعد التفسير، وإن كان كتاب الدكتور حسين أخص بما يتعلق بقواعد الترجيح، وقد اختصر كتابه ، ويمكن أن يُستفَاد منه في التدريس سواء في الجامعات أو أيضًا في الدورات العلمية ، ويكون الكتاب الكبير مرجعًا يمكن أن يستفيد منه الطالب ويراجع فيه.

هذه القواعد تمثل كيفية التعامل مع الاختلاف الواقع بين المفسرين.
وهذه بعض ما يمكن أن يُقَال في أصول التفسير.

هناك قضيتان مهمتان، لكنها تأتي في مرتبة أقل من هذا، والتعرف على مصطلحات المفسرين، خصوصًا إذا كانت مصطلحات تبنى عليها قضايا علمية، وقد انتشر الآن ـ مثلًا ـ أن النسخ عند السلف ليس كالنسخ عند المتأخرين، مثلًا:
هذا لو لم يعرفه طالب العلم فإنه سيقع عنده إشكال، وكثيرًا ما يقرأ في بعض عبارات السلف: حينما يأتي مثلًا إلى من يقول من السلف :
﴿لابثين فيها أحقابا﴾ يقول: نسخها قوله تعالى: ﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا﴾.بلغ هنا
وأنت قد أخذت قاعدة أن الأخبار لا تُنْسَخ، فالذي سيقع عندك أنك ستقول: أخطأ فلان.

ولكن إذا عرفت أن مصطلحه في النسخ أوسع من مصطلح المتأخرين، وأنه يريد به أي رفع من معنى الآية ، فإنه لن يقع عندك إشكال في مثل هذا، وسيكون صحيحًا.

ومعرفة مصطلحات المفسرين, وطرائقهم في التعبير عن التفسير أيضًا من القضايا المهمة.

من ما يمكن أن يطرح في هذه المرحلة:
القراءة في بعض الكتب التي لها علاقة بعلم التفسير، غير كتب التفسير، مثل كتب: معاني القرآن، أو كتب توجيه القراءات، هذه مهمة جدًّا في أن يقرأ فيها الطالب، وأن يتثقف من خلال هذه الكتب، وكذلك كتب الناسخ والمنسوخ، وكتب أسباب النزول، هذه كلها روافد يمكن أن يستفيد منها في حال قراءاته وستلاحظون أن الكم المذكور الآن لو أردنا أن نطرح الكم المذكور من الكتب، هو كثير جدًّا ، فضلًا عن الكتب المتعلقة بعلوم القرآن.

ولهذا أقول :
إن هذه المرحلة هي مرحلة البناء الحقيقية لطالب علم التفسير.

ذكر بعض الكتب التي عنيت بذكر الأقوال :
لو أراد طالب العلم أن يطلع على الأقاويل فقط دون غيرها، فإن هناك عدد من الكتب التي تفيده في ذلك ، ومن من الكتب التي عُنيت بالأقاويل تفسير الماوردي ( النكت والعيون ) وقد اعترض عليه العلماء بأنه ينقل أقوال المعتزلة ، ولا يردُّ عليها ، حتى إنه اتهم بالاعتزال بسبب هذا .

هناك كتاب استفاد منه وتخلص من هذه الإشكالية ـ إشكالية نقل أقوال المعتزلة ـ وهو «زاد المسير» لابن الجوزي ، فإنه يذكر أقاويل المفسرين منسوبة إليهم، وهذا الكتاب «زاد المسير» كان أحد العُمَد التي يرجع إليها شيخ الإسلام ابن تيمية حينما يذكر أقوال المفسرين، وكان يُعني كذلك بتفسير ابن عطية، وتفسير ابن جرير، وتفسير البغوي، وتفسير ابن أبي حاتم ، هذه من أكثر الكتب التي يرجع إليها حينما يريد أن يحرر خلافات المفسرين، ويذكر أقاويل مفسري السلف بالذات.
ويمكن أن يضاف إليها في معرفة الأقاويل كتاب الدر المنثور، وتفسير ابن كثير.

من الكتب التي يمكن أن يستفيد منها الطالب في هذه المرحلة، هي كتب المحررة في هذا العلم، تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن عطية الأندلسي، وتفسير ابن جُزَي الكلبي، وتفسير أبي حيان، وتفسير ابن كثير ، وتفسير الطاهر بن عاشور أنا أذكر هذه الستة فقط الآن، وسأذكر لماذا ذكرت هذه الكتب؟

أما تفسير ابن جرير الطبري ، فقد سبق أن ذكرت لكم أهميته خصوصًا في قضية تأصيل الوصول إلى المعنى ومعرفة طريقة مناقشة خلافات المفسرين، والقواعد العلمية التي سار عليها، ابن جرير الطبري.

وأما ابن عطية فتفسيره كما سماه «المُحَرَّر الوجيز» ، وهو اسم على مسمى ، ففيه تحرير بالغ جدًّا، وفيه عناية بتوجيه أقوال السلف، يمكن أن يستفيد منها طالب علم بالتفسير، لو جمعها، فإنه ستُكَوِّن عنده قاعدة في كيفية التعامل مع الأقاويل الأخرى التي لم يتطرق لها ابن عطية.

أضرب لكم مثالًا، ارجعوا إلى قوله تعالى: ﴿للسائل والمحروم﴾ فقد ذكر أقوال السلف في المراد بالمحروم، واعتبر ذكر أقوالهم على أنها اختلاف محقق تخليط من بعض المتأخرين وقد نبه على أن تفسيرات السلف كلها من باب المثال للمحروم، فمن أصاب زرعه جائحه يُعدُّ محرومًا، من سُرق ماله يُعدُّ محرومًا، من لم يُعط من الغنائم: يُعدُّ محرومًا، إذن فهو جعل المحروم لفظًا عامًّا يندرج تحته هذه الأقاويل، وهي على سبيل المثال.

ولمَّا تُدرَّب على مثل هذه الطريقة، وغيرها من طرائق ابن عطية، يمكن أن تطبقها على أمثلة كثيرة، ويكون عندك دِربة ومُكنة في أن تطبقها على أمثلة كثيرة.

ومن لطائف ابن عطية في هذه الآية:
أنه ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: المحروم: الكلب.

ونحن لو نظرنا إلى هذا القول لاستغربناه، إن لم نستبشعه، ونقول: إنه كيف الكلب المحروم؟!
قال ابن عطية يوجه هذا القول:
وكأنه أراد أن يضرب مثلًا لذات كبد رطبة، وليس مراده أن الكلب هو المحروم دون غيره، فأراد أن يضرب مثالًا للمحروم.

أيضًا أورد قولًا للشعبي: قال: أعياني أن أعلم ما المحروم؟
قال: والشعبي محروم في عدم معرفته للمحروم؛ لأنه أراد معينًا في معنى المحروم والآية على العموم، يعني أراد أن يعين، المحروم هذا من هو بعينه؟!
فالشعبي ـ رحمه الله تعالى ـ لأنه ذهب هذا المذهب أعياه معرفة من المحروم، فجاءت عبارة ابن عطية اللطيفة هذه.

وعمومًا ابن عطية في هذا الباب ـ في طريقة توجيه أقوال السلف ـ أصل، ورأيت أنَّ شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم قد استفادا منه في هذا الموضوع فائدة واضحة جدًّا.

وأما تفسير ابن كثير معروف لديكم، وخصوصًا فيما يتعلق بربط الأحاديث النبوية بالآية القرآنية، وهو يتميز بهذا عن جميع المفسرين، ولا أعرف من قاربه في هذا الباب.

وأما أبو حيان الأندلسي فصاحب تحريرات ، وقد استفاد من ابن عطية ومن غيره.

وأما الطاهر بن عاشور صاحب كتاب «التحرير والتنوير» أيضًا في نظري أنه غني عن التعريف لمثلكم، فهو أيضًا كتاب فيه تحريرات ونفائس ، خصوصًا في بلاغة القرآن ومشكلات التفسير ، ويمكن أن يبني طالب العلم ويجعل عنده مُكْنة في علم التفسير.

هذا باختصار بعض الكتب، وكما قلت لكم:
هذه المرحلة مرحلة مختلفة ويمكن أن تطول كثيرًا.
هناك كتب كثيرة ليس المجال الآن مجال ذكرها أو معرفة خصائصها ومناهج مؤلفيها .

ما الذي نحتاجه في هذه المرحلة؟
1 ـ الحرص على استظهار الأقاويل في الآية، بمعنى أن طالب العلم في هذه المرحلة يحرص على أن يكون عارفًا بما قيل من أقوال في هذه الآية.

قد يقول قائل:
إذا جئت إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿والشفع والوتر﴾ أو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وشاهد ومشهود﴾ التي ذكر فيها بعض المفسرين أكثر من خمسة وعشرين قولًا، فهل يلزم أني أعرف كل هذه الأقوال؟
نقول: لا، لكن إذا كان في الآية قولان، ثلاثة أقوال؛ فإن معرفتها مطلوبة ، لكن ما ورد في الآيتين السابقتين هو من باب المثال، لذا لا نحتاج إلى معرفة جميع الأقوال فيهما ، بل يكفي ذكر بعضها على سبيل المثال بعد التنبيه على العموم فيها .

واستظهار الأقاويل مهم في هذه المرحلة؛ لأنه سيبنى عليها الترجيح، ومعرفة ما هو القول الصحيح في الآيات.

2 ـ الحرص على معرفة أقاويل السلف خاصة، وأقصد بالسلف الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهذه كما قلت لكم لها كتب تعتني بهذا يمكن أن تراجعها ، وقد سبق ذكر بعضها .

لماذا نحرص على معرفة أقاويل السلف؟
هذه مسألة يطول ذكرها، لكن من أهمها ـ وأريد أن ننتبه إلى هذه القاعدة لأننا قد لا نستطيع أن نشرحها كاملة ـ:
لا يمكن أن يوجد آية لم يفهم السلفُ معناها.

هذه قاعدة يُبنى عليها أن معنى ذلك أن ما من آية وإلا وللسلف فيها كلام ، ختى إنهم تكلموا عن الحروف المقطعة التي ظنَّ بعض المتأخرين أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، وتفصيل مذهبهم في الحروف المقطعة وما ينتج عنه من فوائد له محل آخر .

والمقصود أنه ما دام السلف تكلموا عن آيات القرآن ، فإنه لا يمكن أن يكون هناك آية لم يفهموا معناها، ؛ لأنه يلزم منه أن في القرآن ما لم تفهمه الأمة في وقتهم ، وهذا محالٌ .

إذن هم فهموا معاني القرآن من حيث الجملة، وما من آية إلا ولهم فيها فهم صحيح على وجه معتبر من وجوه التفسير .

وعلى هذا الوجه من تقرير هذه المسألة يترتب قولنا :
بأن تفسيرهم حجة ، ومعنى ذلك أن ما قالوا من حيث الجملة حجة .
فإن كانوا قد أجمعوا عليه فلا ريب في حجيته.

وإن كانوا اختلفوا اختلافًا محققًا ( أي : ليس اختلافًا يمكن غئتلاف الأقاويل فيه على معنى ) ، فإنه لابدَّ أن يكون أحد أقوالهم حق يوافق المراد ، وعملنا نحن أن نعمل بأرائنا في تتبع أقوالهم ، واختيار الرأي الذي نراه هو الصحيح بناءًا على القواعد العلمية المعتبرة ، وهي قواعد الترجيح وقرائنه التي عَمِل بها بعض علماء التفسير من المحققين ، ثم إن وصولنا إلى القول الصحيح ظنِّيٌّ ، لكن عندنا يقين بأن ما قاله الصحابة والتابعون وأتباع التابعين فيه المعنى الصحيح.

لكن بعد اجتهادنا في اختيار القول ، واعتمادنا على وجوه الترجيح ، فإنه قد يكون القول الآخر هو الصحيح ، وليس ما اخترناه ، وإنما سبيلنا في هذا أن نعمل بالأسلوب الأمثل في طريقة التفسير والترجيخ فيه ، وهذا لا يعني أن التنازع سينقطع ، بل سيبقى موجودًا .

الحرص على معرفة الأقاويل الصحيحة المحتملة في الآية التي جاءت بعد السلف:
هذه المسألة مهمة جدًّا ؛ لأنها تدلنا على كيفية إضافة هذه الأقوال إلى ما قاله السلف ، وقد سبق أن فصلت فيها في مقال مستقل ، وهذه المسألة تدل على أنه يوجد عندنا أقوال قالها من جاء بعدهم، وهي صحيحة والآية تحتملها ولا تنقض أقوال السلف، فكيف نستطيع أن نرتبها على الآية؟!

ونقول:
إذا كانت قد حصلت فيها هذه الضوابط ، فإنه يمكن القول بالأقوال الجديدة التي أتت بعدهم ، لكن لا يمكن ـ بحال ـ أن تكون هذه الأقوال أصح من أقوالهم ؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون القرآن لم يُفهم على وجهه الصحيح خلال تلك الأزمان ، وتلك فيها مشكلة أخرى ، وهي أن بيان الله سبحانه لهؤلاء كان ناقصًا ، وهذا محالٌ أيضًا .

عندنا أيضًا من القضايا المتعلقة بهذه المرحلة:
التعرف على منهج المفسر الذي نريد أن نقرأ له:
وهذه قضية مهمة، نختم بها هذه المرحلة.

قد نقرأ تفسير الشيخ السِّعدي، أو تفسير ابن كثير، أو تفسير ابن جُزَي، ونغفل عن هذه الحيثية، وهي الاجتهاد في التعرف على منهج المفسر.

فما دمت سأقرأ ما أقرأ من كتب التفسير ، فلماذا لا أجتهد في تقييد منهج هذا المفسر ومعرفة القواعد العلمية التي سار عليها، وطريقته في التعبير عن التفسير، وطريقته في ترتيب كتابه، هذا من القضايا المهمة التي لا بد أن ننتبه لها لأنها تفيدنا في مراحل متقدمة حينما نريد أن نقدم علم التفسير، أو مناهج المفسرين للطلاب.

المرحلة الثالثة: هذه مرحلة التوسع في العلم:
وهذه المرحلة يمكن أن نسميها المرحلة البحثيَّة:
لأنها مرحلة مطلقة يُقرأ فيها ما يُقرأ، ويُستفاد مما يُستفاد من الكتب القريبة من التخصص أو قد تكون بعيدة عن التخصص، أيًّا كان، فهذه مرحلة بحثية واسعة جدًّا، يمكن أن يمارس فيها الطالب في هذه المرحلة ـ وهو سيكون الآن ليس طالبًا ـ هو في نظري في هذه المرحلة سيكون شيخًا ، فإنه يمارس فيها قراءات متعددة، ويوظفها في تفسير القرآن.
كلما وجد كتابًا يمكن أن يستفيد منه في تفسير القرآن يمكن أن يضيفه.

ولعلي أذكر قضية وإن شئتم نقف عندها ونتناقش فيما سبق:
هي قواعد عامة يحسن مراعاتها عند القراءة في الكتب التفسير وهكذا أيضًا في الكتب الآخرى:
أول قضية:
العناية بالتعرف على منهج السلف ومن سار على منهجهم من خلال التطبيقات العملية التي يقومون بها في تفاسيرهم.

وهذه القضية أؤكد عليها تأكيدًا شديدًا، وأقول من أراد أن يعرف التفسير ويعرف كيف يصل إلى فهم المعنى، عليه بهذه المسألة؛ لأن جملة تفسير السلف ـيعني: الغالب على تفسير السلف ـ يتجه إلى بيان المعنى، ولو أردت أن تنتخب تفسيرًا من تفسير السلف لتبين فيه المعنى فإنك ستجدك تستطيع أن تنتخب تفسيرًا كاملاً ، وبعض الآيات التي لا تجد للسلف فيها كلامًا ـ وهي قليلة جدًّا ـ فإنها من الوضوح بمكان، وهي كما قال الشافعي : ( تنزيله يغني عن تأويله ) ، وهذه الآيات لا تحتاج إلى أن تبحث ماذا قال فلان، أو ماذا قال الآخر.

والمراد أننا لو أردنا أن نجمع تفسير للسلف من خلال المأثور عنهم، سنستطيع أن نخرج بتفسير يجمع لنا معانٍ الآيات بوضوح تام.

أيضًا من القواعد التي يحسن التنبه لها:
العناية بتطبيق أصول التفسير على ما يقرأ من التفسير:
إن تطبيقاتك في أصول التفسير من أهم الأمور التي يجب أن تنتبه لها، إما أن تعمل هذا وحدك، أو أن تكون مدارسة بينك وبين بعض زملائك، أو أن تكون مدارسة مع شيخ من المشايخ، المهم أن تجتهد في تطبيق ما درسته في أصول التفسير على كتب التفسير التي تقرأ فيها لكي تكون صاحب دِربة على التعرف على أصول التفسير تطبيقًا، لأنه لا يكفي الجانب النظري.

ومن القواعد : الرجوع إلى موارد المفسر:
إذا كنت عَّينت كتابًا من الكتب على أنه أصل من الأصول التي تقرأ فيها ، وتداوم عليها ، فإنه كلما استطعت أن ترجع إلى موارد ( مصادر ) المفسر التي رجع إليها، وتربط بين نقولات المفسر والأصول التي رجع إليها، فإنك ستجني من الفوائد ما لا لا تكاد أن تجنيه لولا رجوعك إليها ؛ إذ قد يكون نقل المفسر بالمعنى ، وكلام المنقول عنه فيه فوائد وتحقيقات تحتاج إليها .

ومن القواعد:
التركيز على كلام المفسر في تفسير الآيات المتصلة بالفن الذي يتميز به المفسر:
سنجد ـ مثلًا ـ بعض المفسرين تميز بفن معين قد صبغ تفسيره به ، وإذا أدركت أن هذا المفسر وجهته ـ مثلًا ـ إلى التفسير الفقهي، أو النحوي ، فإن تركيزك على القواعد والفوائد التي يذكرها في هذا الباب مهم للغاية؛ لأنه قد يذكر من الفوائد والضوابط في كيفية الاستفادة من هذا العلم في التفسير ، أو قد يذكر تقييدات علمية ترتبط بهذا الاتجاه ، أو غير ذلك من الفوائد .

فتنتبه إلى اتجاه المفسر العلمي الذي برز فيه، واجتهد في أن تضبطَ أصول هذا العلم من خلال القضايا التي يطرحها.

القاعدة الأخيرة:
ـ وهي قاعدة سبق ذكرها ولا بأس بتكرارها ـ وهي الحرص على تقييد الفوائد التي يستفيدها طالب العلم من الكتب .

وأنا أركز على هذه الفائدة، وأقول إنها من أهم ما يمكن أن يجنيه طالب علم التفسير، أو طالب العلم عمومًا ، وهو تقييد الفوائد.

وسأذكر لكم مثالاً ـ ذكرته قبل قليل ، وهو حاشية الجمل على الجلالين.

من أراد أن يعرف فائدة أسلوب الجمل ـ رحمه الله تعالى ـ فليفعل الآتي :
1 ـ يحدِّد سورة من السور القصار؛ مثل سورة التين، سورة النصر.
2 ـ يجعل أحد التفاسير أصلًا يقيد عليه الفوائد .
3 ـ ينتخب الفوائد من هذه الكتب، ويدوِّنها إما تعليقًا إن كانت يمكن أن تكون تعليقًا كاملاً ، وإما إشارة إلى رأس المسألة ومرجعها بالجزء والصفحة .

وإذا فعلت هذا من خلال خمسة تفاسير ـ مثلاً ـ فانظر كم سيجتمع لك من الفوائد!

هذا خلال أسبوع، لو كنت تستخدم هذه الطريقة وتعتمدها اعتمادًا تامًّا وتقيِّد كل ما تقع عليه من فوائد على أصلك الذي اعتمد من كتب التفسير ، فانظر بعد عشر سنوات كم من الفوائد ستكون عندك؟!

ومادام هذا هدفًا من الأهداف الرئيسة عندك، فتأمَّل؛ ستجد أنك في النهاية قد انتخبت من كثير من التفاسير ما تميل أنت إليه بطبيعتك، لأن كل واحد يميل إلى فوائد لا يميل إليها الآخر.

وأقول:
من أراد أن يجرب، فليجرب في أسبوع، وينظر كم من الفوائد التي سيجنيها .
وهذه القضية مهمة جدًّا، وهي تقييد الفوائد.

وكما قلت لكم:
ليس كلنا يستطيع أن يحفظ، لكن من قيَّد فائدة، فإنه يرجع إليها ويعرف أنه قيد هذه الفائدة، فيرجع إلىها الكتاب ويجدها.

وأقف هنا لنناقش معكم بقية الأفكار إن كان هناك بعض أفكار سيطرحها الأخوة، لأن عندي مناهج غير هذا المنهج ذكرها بعض الأخوة في طريقة دراسة علم التفسير، لعل بعض الأخوة يذكرها، أو أذكر لكم أيضًا ما ذكره آخرون في منهج تلقي التفسير .اهـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الكتاب ( المنهجية العلمية لدراسة التفسير ) عبارة عن محاضرة ألقاها الشيخ مساعد الطيار بديوانية الدراسات القرآنية بمحافظة الطائف بتاريخ 17/10/ 1430هـ.
ثم تم تفريغها وعرضها على الشيخ حفظه الله
فراجعها وزاد عليها أمورا مهمة. فجزى الله خيرا كل من أعان على إتمام هذا العمل المبارك.
أبو مالك العقرباوي
المصدر: http://vb.tafsir.net/tafsir17876/#ixzz2TtjCGbnj


بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ الشريط بتلاوة آيات بينات من قوله تعالى: ﴿قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى﴾ إلى قوله تعالى ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾.

الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسَلِّم على المبعوثِ رحمةً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فأحيِّيكم جميعًا بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرحبُ بكم في ديوانيتكم، ديوانية الدراسات القرآنية بمحافظة الطائف، فأهلًا وسهلًا بكم جميعًا، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

ويسعدنا ويشرفنا أن نستضيف في هذه الليلة المباركة عَلَمًا من أعلام الدراسات القرآنية، تميز ـ حفظه الله ـ بالتحرير والتأصيل والتجديد في مجال الدراسات القرآنية على وجه العموم، وفي التفسير وأصوله على وجه الخصوص، وقد أثرى المكتبةَ القرآنية بمؤلفاتٍ قيمة مُحَرَّرة، فمنها:
- «المُحَرَّرُ في علوم القرآن».
- و«فصول في أصول التفسير».
- و«التفسير اللغوي» (وهي رسالة الدكتوراة).
- و«شرح لمقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير».
- و«تفسير جزء عمَّ».
- و«وقوف القرآن وأثره في التفسير» (وهي رسالة ماجستير على وشك الظهور إن شاء الله).
وأنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم، وجُمِعَت له مقالاتٌ قيمة في كتاب:
«مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير».

ومن قرأ في مثل هذه المصنفات علم مقدار ما فتح اللهُ عليه جل وعلا من علم رصين، وتحرير دقيق، وبحث علميٍّ متين، وله العديد من الأشرطة والدورات العلمية والمحاضرات التي ذاع صيتها وانشر بين طلاب العلم نفعُها، كما أن له إسهامات كثيرة إعلامية في عدد من القنوات الفضائية، والإذاعية ومواقع الشبكة العنكبوتية، وفي «ملتقى التفسير» على الشبكة على وجه الخصوص.
ومما عُرف عن الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ البعد عن التقليد، والنقد البناء، وفق الضوابط العلمية، وغزارة الأفكار العلمية والبحثية.

وبعد، فهذا غيض من فيض من سيرة فضيلة ضيفنا الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض، نستضيفه الليلة ليحدثنا عن موضوع بالغ الأهمية، عن:
«المنهجية العلمية بدراسة التفسير»
وهو موضوع للشيخ فيه اهتمام بالغ، من خلال عدد من الدورات التطبيقية للمنهج العلمي لدراسة التفسير، فعن هذا الموضوع، والمراد منه، وأهميته، وفائدته وثمرته يحدثنا فضيلة الشيخ في هذه الليلة.

أهلًا وسهلًا بك أبا عبد الملك، ضيفًا كريمًا، وأخًا عزيزًا، أهلًا ومرحبًا بك بين أحبابك وإخوانك، وندعوكم الآن إلى أن تنثروا علينا من شريف علمكم، وكلُّنا أُذُنٌ صاغية، سدد الله قولكم، ونفع بعلمكم.
بداية كلام الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أحمدُ الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي وفقني لأن أكون مع إخوة نتطارح موضوعاتٍ علمية فيما يتعلق بأشرف كتاب، وهو كتاب الله سبحانه وتعالى.

وقبل أن أبتدئ هذه المطارحة العلمية معكم، أحب أن أثني على هذه الفكرة الرائدة والرائعة في أن يكون للمتخصصين في العلوم الشرعية مجالس وديوانيات يلتقون بها ويتطارحون في هذه الديوانيات شئونهم الخاصة، وكما تعلمون لكل تخصص همومه الخاصة وتحتاج إلى مثل هذه اللقاءات والتجمعات لمطارحة الأفكار.

وكانت هذه الفكرة تراودنا في الرياض، ولكن المبادرة لعملها تأخرت كثيرًا، ففرحت بوجود هذا النموذج لما طرحه الأخ عبد الله ـ حفظه الله ـ في الطائف، وعَمِلنا بعد ذلك في الرياض في مركز التفسير لقاءً شهريًّا لكنه لم يتسم بهذا الطابع الذي ترونه الآن من القضايا العلمية ، فذهب إلى قضايا تنظيرية تتعلق بالتَّنْظِير لمستقبل الدراسات القرآنية، وهو مجال نحتاج إليه، وهذا جانب من التنوع في طرح الموضوعات في شتى المجالات المتعلقة بالدراسات القرآنية.

فأنا أقول: نحن تَبَعٌ لكم في هذا المجال، وأقول بأنكم قد شَحَذْتُم هِمَّتنا لكي نقومَ بمثل هذا العمل في الرِّياض، فأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعل ما نقوم به في هذه المجالس التي نقوم بها في الرياض، أن يردَّ غنيمتها وخيرها لأخي عبد الله ولمن كان معه ممن فتحوا هذه الديوانية.

أشكره مرة أخرى شكرًا خاصًّا على ما قدَّم، ولعله يعذرني في أن أعترضَ على بضع الأوصافِ التي ذكرها فيَّ، فأنا أقولها ـ ليس من باب التواضع الذي يراد به المدح ـ ولكني أقولها حقيقة أنني في نفسي لم أرَ مثل هذه الأوصاف التي ذكرها، وإن كنت دائمًا أقول أن كلَّ واحدٍ لا يستطيع أن يردَّ عن نفسه المبالغة إذا أراد أن يمدح غيره بما يرى فيه من محاسن ، لكنني أتكلم عن نفسي صادقًا، وأرجو أن تأخذوا هذا عنِّي، أني أعتبر نفسي باحثًا، ولا أشك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد منَّ عليَّ بأن وفَّقَني إلى التقاط بعض النقاط التي غَفَل عنها بعض أهل التخصص، فأبرزتها، فظهر فيها إثارة علمية، وصارت تُتداوَل وتُناقش، هذا أجده ـ ولله الحمد ـ ولكن أرجو أن أصل إلى ما يُذكَر عنِّي، وأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يغفر لي ولكم جميعًا في مثل هذه المقامات التي يقع فيها مثل هذا الثناء، وأنتم تعلمون أن النبي صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم قد أرشدنا إلى أن لا يُثْنَى على الشخص في وجهه، وأنتم تعلمون أن ذلك قد يكون فيه نوع من المزلة لبعض الأقدام، فأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينقذني وإياكم من مثل هذه الأمور.

أيًّا كان الأمر نرجع مرة أخرى إلى ما طرحه أخي عبد الله وطلبه في أن يكون اللقاء عن منهجية تَعَلُّم التفسير، وكيف يمكن أن يُتَعَلَّمَ التفسير.

قد يقول قائل: قبل أن نبتدئَ في هذه المحاضرة، وهو سؤال مهم يُطْرَح كثيرًا، وأنا أحس أن فيه نوع من الحرج، ولكن مَن يشاركني في التخصص يمكن أن يُوَافِقَنِي إلى حد بعيد في أننا حينما درسنا علم التفسير في الجامعات لم نخرج بحصيلة يمكن أن نقول أننا فهمنا أسس التفسير، وأصوله، ومناهجه، وطرائقه، ولكن كان من مِنَّة الله عليَّ أن بدأت أقرأ في تفسير الطبري ـ بالذات ـ بعد أن أخذت بعض أفكار وأصول من كتاب شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ لـ «مقدمة أصول التفسير»، أو من بعض تعليقات ابن القيم، أو تعليقات الشنقيطي، فكنت قررت في فترة ـ كما تعلمون هي فترة مرت علينا جميعًا إبَّان فترة الحرب العراقية على الكويت كانت سنة جاء فيها رمضان في عطلة غير مسبوقة وغير مقصودة لأجل الحرب.

فأخذت معي تفسير الطبري، وبدأت أقرأ في هذا الكتاب، فوجدت أن علم التفسير كلَّه في هذا الكتاب، وأن من أراد أن يتعلم التفسير فعليه أن يقرأ في هذا الكتاب لكي يتخرج به، ويعرف كيفية التعامل مع أقوال المفسرين، وكيفية التعامل مع الآيات، وكيفية الاستنباط، وكيفية الجمع بين الأقوال، هذا شيء لم نجدْهُ لمَّا كنَّا ندرس في الدراسات الجامعية، وأسفت كثيرًا على هذا.

بل مما يجعلني آسف كثيرًا، أنني لما بدأت أتمسك بهذا الكتاب وتقدمت إلى مرحلة الدكتوراه، في جامعة الإمام، سألني أحد مشايخي، وهو من أكثر المشايخ الذين دَرَّسُونا في الدراسات العليا واستفدنا منهم، سألني سؤالًا قال:
إذا أردت أن تُحَضِّر للطلَّاب، فما الكتب التي سترجع لها؟
فقلت له:
أرجع إلى ثلاثة كتب رئيسة: تفسير الطبري، والتحرير والتنوير، ومفردات الراغب الأصفهاني.

فعاب عليَّ رجوعي إلى تفسير الطبري، وقال:
ما الفائدة من تفسير الطبري؛ فتفسير الطبري مجرد آثار، فأنا كنت أظن أنه يستخبر، فقلت: لا، تفسير الطبري فيه آثار، وفيه آراء.
قال: أبدًا، تفسير الطبري أثري، وليس فيه آراء.

فهذه من مثل هذا الشيخ الذي كان يدرسنا في مرحلة البكالوريوس وكذلك في مرحلة الماجستير، أحدثت عندي شيئًا من الألم في أن يكون أحد أساتذتي ممن مضى عليه عمر وهو لا يعرف هذه القيمة الكبيرة لهذا التفسير.

أبتدئ هذه المحاضرة بالتنبيه على أهمية هذا الكتاب بالذات، وأن من عرف طريقة القراءة في هذا الكتاب فإنه سيستفيد فائدة عظيمة في فهم التفسير، وطريقة التعامل مع المفسرين.
أما قضية «المنهجية»، فكما تلاحظون أيضًا أن علم التفسير ليس كبعض العلوم التي وُجِدت فيها متون، ووُجِدت فيها ترتيبات، ففي بعض العلوم يتخرج الطالب بمتن، ثم ينتقل إلى متن آخر، ثم ينتقل إلى متن ثالث، وكتب التفسير ـ كما تلاحظون ـ في مُجْمَلِها تكون بين مُطَوَّلة، ومُتَوَسِّطَة، ويقل كثيرًا أن يوجد هناك مختصرًات، وإذا أردت أن تنظر إلى المختصرات التي جُعِلَت لكي تكون بدايات لمن أراد أن يعرف التفسير، ستجد أول كتاب قصَدَ مؤلفه أن يكون كذلك:
كتاب «الوجيز للواحدي»، ولكن حينما تقرأ في هذا الكتاب وتُمَحِّص النظر فيه ستجد أنه لا يُغْنِي حتى للمبتدئ، لأنه أشبه ما يكون أحيانًا بمعاني الكلمات، وبعض الآيات أحيانًا لا يتعرض لها. فلا يكاد يفيد.

والواحدي توفي في القرن الخامس، واستمر الزمن طويلًا ولا يكاد يوجد كتاب يمكن أن يكون عمدة، ويرجع إليه المتخصصون، وإنما كانت طريقة العلماء:
القراءة في هذه المُطَوَّلات والانتخاب منها، كما سأذكر ـ إن شاء الله ـ بعض التفاسير التي كانوا يعملون عليها بالشرح والتعليق .
لما ظهر كتاب الزمخشري ( ت : 438 ) ـ وأنا أريد أن أذكر هذا التاريخ لأنه يهمنا ـ عُنِي العلماء به من جانبين:
- من جانب البلاغة.
- ومن جانب الاعتزال.
فإما أن يدرسُوه ليبينوا ما فيه من البلاغة أو يضيفوا إليه، وإما أن يدرسوه ليردوا عليه اعتزاليته، وأكثر من قرأ هذا الكتاب هم العلماء الأشاعرة، تصدُّوا لهذا الكتاب، وكانوا يقرءونه قراءة فكٍّ وشرح، وليست قراءة عابرة، بل يتناقشون فيه، ويخرجون بعد ذلك بحواشي وتعليقات عليه.
وهو من الكتب التي قد كثرت عليها الحواشي لهذين السببين اللذين ذكرتهما.

فهو أول كتاب قعَّد للبلاغة القرآنية، أما قبله فتكاد تكون مسائل البلاغة القرآنية منثورة نثرًا لكن هذا الكتاب قصد أن يدرس البلاغة القرآنية، فكان له ـ بسبب هذا الجانب ـ اعتبار عند العلماء في أن بدءوا يقرؤونه ويستفيدون منه، ويفرعون عليه، ويضيفون إليه من هذا الجانب.

الجانب الآخر ـ الجانب الاعتقادي ـ وكانت قراءتهم له في مجال الاعتراض والرد، وكما هو معلوم أن علماء الأشاعرة كثيرًا ما تصدوا لعلماء المعتزلة، فكان هذا الكتاب مجالًا من المجالات التي يكون فيها المناقشة والمناقضة في مجال الاعتقاد.

بعده بسنوات ـ يعني في القرن السابع تقريبًا ـ جاء كتاب البَيْضَاوي، والبيضاوي أصولي، وقد أسس كتابه على طريقةٍ قويةٍ في التَّعْبِير، وفيها نوع من ضَبْطِ العبارة، ووفق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لهذا الكتاب أن تتبناه الدولة العثمانية، فعلماء الدولة العثمانية تبنوا هذا الكتاب، وجعلوه منهجًا يُدَرِّسُونه، ولهذا كَثُرَتْ حواشي علماء الأتراك على هذا الكتاب، والسبب هو أنه كان منهجًا عندهم، ولهذا قيل ـ وهذه معلومة أنا أذكرها لست متأكدًا منها لكني سمعتها ـ:
أن هناك رتبة في الأستاذية لا تُعطى إلا لمن يشرح تفسير البيضاوي، وبسبب هذا كثرت عليه الحواشي.

ونحن لو تأملنا هذا الكتاب لوجدناه كتابًا صعبًا لا يمكن أن يقرأه الطالب المبتدئ، ومن أراد أن يعرف صعوبة الكتاب يقرأ في بعض الحواشي بينظر كيف كان العلماء يفكون عبارته .

بعده جاء في القرن العاشر كتاب «الجلالين» جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، ومن باب الفائدة:
جلال الدين السيوطي كتب كتابه وهو في العشرين، وأكمل كتاب شيخه جلال الدين المحلي، المحلي كتب سورة الفاتحة، وكتب من سورة الكهف إلى نهاية القرآن، ثم توفي بعد أن بدأ في الفاتحة، فأكمل السيوطي من البقرة إلى أن انتهى إلى رأس سورة الكهف.

هذا الكتاب أيضًا اعتمده علماء الأزهر في مصر، وصار أيضًا منهجًا تَدْرِيسيًّا، فكثرت أيضًا عليه الحواشي، وهذه أحد أسباب كثرة الحواشي على هذا الكتاب.

هذه الكتب الثلاثة لا يمكن أن نعدها متونًا تصلح لطالب العلم المبتدئ، وإنما هي متون يقرأ فيها العلماء، وأن أستغرب من بعض مَن ينصح بعض الطلاب المبتدئين بقراءة مثلًا تفسير الجلالين، هذا التفسير في نظري لا يُناسب طالب العلم المبتدئ وفهمه منه سيكون قليلًا، لأن فيه تَلْغِيزًا في العبارة في بعض القضايا مثل قضية القراءات، وهو كتاب يحتاج إلى فكٍّ وشرح وتعليم.

هذا باختصار نظر سريع جدًّا لبعض الكتب التي عُنِي بها العلماء، أما كتاب الواحدي الذي جعله للمبتدئين لم يحظَ بالقبول على مر السنين، إنما الذي حظي بالقبول عند العلماء وصار يُتَدَارسُ ويُتَدَاولُ هذه الكتب الثلاثة.

أما اليوم فنحن نحتاج إلى ما نغربل ما عندنا من الكتب، والكتب ـ ولله الحمد والمنة ـ كثيرة جدًّا الآن، ولو أردت أن تقسمها لوجدت أنك يمكنك أن تقسمها إلى أقسام كثيرة، والكتاب الواحد يمكن أن تقسمه إلى أكثر من قسم، مرة تجعله في الاتجاه الفقهي، ومرة تجعله في الاتجاه اللغوي، ومرة تجعله في الاتجاه العَقَدِيّ، على حسب ما هو موجود الآن من دراسات المناهج والاتجاهات.
المرحلة الأولى لمرحلة المبتدئين:
وهذه التي يجب أن نُعْنَى بها، وأيضًا أقول لطالب العلم، خصوصًا الذي في المرحلة الجامعية أن ينتبه إلى هذه المرحلة، وأن يُؤسِّس نفسه من خلال هذه المرحلة ويبتدئ بها، وألا يظن أنه تَقَدَّم على هذه المرحلة، وأنه ليس بحاجة لها ؛ لأنَّه إذا تَكَشَّف ما عندَه من العِلم فإنه سيرى أنه ليس عنده شيء، والسبب هو أن طريقتنا في القراءة فيها مشكلات ، منها أنها طريقة قراءة فقط ولا تتسم بالتَّقييد، ولسنا حفَّاظًا مثل من وهبه الله القدرة على الحفظ، لذا نحتاج أن نجعل التقييد في كل مرحلة من مراحل التعلم والقراءة .

والكتاب الذي نريد أن نصفه لهذه المرحلة كما يأتي :
1 ـ أن يكون الكتاب مُستوعِبًا لمسائل التفسير، قدر الطاقة، أي يكون فيه أسباب النزول، وبيان المفردات والمعنى الإجمالي وغيرها .
2 ـ أن يكون سهل العبارة، لا يحتاج إلى فكٍّ.
3 ـ أن يكون مختصرًا، لكي يَقْصُرَ زمنُ قراءته.
فإذا وُجِدَ كتابٌ بهذه المثابة، فأنا أعدُّ أن هذا هو الكتاب الذي يمكن أن يكون متنًا يبتدئ به الطالب.

إن لم يوجد متنٌ بهذه المثابة، أو قال الطالب إن هذا المتن قرأته وانتهيت منه، وأريد ما هو أفضل منه، فيمكن أن ينتقل إلى بعض الكتب المتوسطة التي لا يقع فيها إشكالات كثيرة، ولعلِّي أذكر إن شاء الله بعض هذه الكتب.

طريقة القراءة في الكتاب الذي ذكرته الآن ـ ويمكن أن نذكر بعض الكتب له ـ:
من أهم قواعد القراءة والتي نغفل عنها كثيرًا، هي أنه يجب أن نقرأ الكتاب كاملًا.

هل القراءة الواحدة تكفي، يعني: قراءة التفسير مرة واحدة تكفي؟
أقول: لا، نحتاج إلى قراءة التفسير أكثر من مرة، بحيث أن الطالبَ يَسْتَظْهِرُ ـ ولا أقول يحفظ وإنما يَسْتَظْهِرُ ـ جملة المعاني الموجودة في هذا التفسير، بحيث أنه لو سُئِلَ :
ما معنى هذه الآية؟
يستطيع أنه يعبِّر عن هذا المعنى من خلال ما استظهره من هذا الكتاب, ولا يمكن أن يستظهر هذا إلا معَ مُدَاومة القراءة مرة بعد مرة.

ولو رجعنا إلى سير بعض العلماء، سنجدُ أن هذه الفكرة ـ وهي فكرة إعادة الكتاب أكثر من مرة ـ موجودة عندهم، فيجب أن ننتبه إلى هذه القاعدة، وهي: (أن نقرأ الكتاب كاملًا، وأن نكرر قراءته مرة بعد مرة) لنستوعبَ ما في هذا الكتاب من التفسير.

من الأشياء التي ينتبه إليها المبتدئ خلال القراءة:
ترك الإشكالات ؛ لأن الهدف في هذه المرحلة هو أن يفهم المعنى الإجمالي، وليس أن يفهم جميع ما يتعلق بالآية من مشكلات ومسائل.

وعليه أن يجمع هذه المشكلات والمسائل في دفتره ويسأل عنها متى ما تسنى له ذلك ، لكن لا تكون قاطعة له عن هدفه في إتمام القراءة وإدراك المعنى .

وتحديد الهدف مهمٌّ جدًّا في هذه المرحلة، وهي أنَّا نقول له:
المطلوب منك الآن أن تفهم المعنى الإجمالي، بحيث أنَّا لو قلنا لك:
ما معنى قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول﴾؟
فإنك تعطينا المعنى الإجمالي، لكن حينما نريد أن نحلل لفظة (الأنفال) والأقوال التي قيلت فيها، فإن هذا ليس في المرحلة الأولى التي نطالب الطالب فيها أن يفهم المعنى العام.

من القضايا ـ أيضًا ـ التي يمكن أن ينبه عليها:
أنه قد يقول قائل: أنا لي قراءات أخرى وأستفيد فوائد من كتب التفسير أو غيرها مرتبطة بالآيات، فكيف أتعامل مع هذه الفوائد التي أستفيدها خارج قراءتي لهذا التفسير؟
والجواب: هو تقييد هذه الفوائد في مَحِلِّها من التفسير الذي بين يديك، بمعنى أن هذا التفسيرَ سيكونُ متنًا بالنسبة لك تُضِيفُ إليه الفوائد مرةً بعدَ مرة.

وهذا الأسلوب سأذكر له مثالًا من الأمثلة الموجودة عندنا في السَّاحة، مثل كتاب الجبل (حاشية الجمل على الجلالين) لو تأملنا طريقة الجمل ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه سنجد أنه جعل كتاب الجلالين أصلًا وأضاف إليه فوائد، ولهذا تجدونه يأتي بكلام، ثم يقول: انتهى. شيخنا، انتهى. كذا، فهو يذكر فوائد يعلقها على الجلالين ، ولا يحرص على فكِّ عبارته وشرحها كغيره من شروح الجلالين.

هذه الفكرة ـ وهي فكرة جمع الفوائد في مكان واحد ـ مهمة جدًّا لكن لا تجعلها هي الأصل الآن، وإنما الأصل هو استظهار هذا الكتاب الذي بين يديك، فإذا وقعت على فائدة ما خلال قراءاتك الأخرى، فاجعلها في مكانها من هذا الكتاب الذي بين يديك.

هذا تقريبًا باختصار طريقة القراءة في هذه المرحلة، وكما قلنا أن أهم شيء هو الهدف وهو بيان المعنى الإجمالي .

الكتاب المُعْتَمَد لهذه المرحلة :
يُحرص على أن يكون كتابًا مختصرًا ميسرًا، فإن لم يوجد فيكون من الكتب المتوسطة التي لا تحمل إشكالات كثيرة ، بحيث تتعب الطالب وهو يقرأ.

من الكتب التي يمكن أن تطرح في هذا المجال للمبتدئين، أطرح دائمًا كتاب «التفسير الميسر» الذي خرج عن مُجَمَّع الملك فهد ككتاب أولي؛ لأن هذا الكتاب فيه ميزة مهمة جدًّا هو أنه يتجه إلى المعنى الإجمالي مباشرة، وإن كان لا يشمل جميع مسائل التفسير مثل أسباب النزول أو بيان المعاني أحيانًا من جهة اللغة، لكنه ـ على الأقل ـ يعتبر لَبِنَة أولى لفهم المعنى الإجمالي، ما دمنا قلنا أن الهدف الأولي للقراءة للمبتدئ هو فهم المعنى الإجمالي، فإن هذا الكتاب قد اعتُنِيَ به عناية كبيرة جدًّا.

وهذا الكتاب مرَّ على لِجَان متعددة ، وليس عملا فرديًا ، وهذه ميزة مهمة لهذا الكتاب .

وأيضًا الطبعة الجديدة التي صدرت الآن، حُسِّن فيها هذا العمل أكثر، وضُبِطَتْ فيه بعض القضايا الفنيَّة التي لم تكن قد ضُبِطَت فيما قبل، وليس فيه إشكالات علمية كما قيل عنه، بل هي كلها مجالات في الاجتهاد، مثلًا أن آية فسروها في هذا الموطن بكذا، ثم عبروا بتعبير آخر، فرأوا توحيد تعبيرات التفسير ، أو بعض العبارات أزالوها وأضافوا عبارات أخرى بدلًا منها.

وأقول هذا الكتاب لمن أراد أن يدخل في المرحلة الأولى كتاب مهم ونَفِيس في أن يبتدئ به.

هناك أيضًا كتاب درجته أعلى قليلًا، ومؤلفه اجتهد أن يشابه أسلوب البيضاوي ولكنه أقل منه وأقصر في هذا، وهو: «جامع البيان» لمعين الدين الصفوي، وقد انتشرت طبعته الأخيرة التي طبعت في الكويت ، لكن وقع فيها بعض الأخطاء، ويمكن أن يعتبر في هذه المرحلة ، مع إشكالات قليلة موجودة فيه .

ومن يرى أن «التفسير الميسر» بالنسبة له أقل من المرحلة التي يريدها، يمكن أن يجعل كتاب «جامع البيان» للصفوي أصلًا يعتمد عليه ويضيف إليه.

وللمؤلف منهج ورموز بينها في أول الكتاب يمكن أن يتعرف عليها الطالب.

من الكتب المتوسطة التي يمكن أيضًا أن يبتدئ بها الطالب :
من تفاسير المتقدمين: اختصار تفسير يحيى بن سلام لابن أبي زمنين وهو كتاب مغمور، لكنه من الوضوح بمكان ويمكن الاستفادة منه، أو كذلك تفسير ابن المظفر السمعاني، وإن كان يذكر الأقوال ، وهي مرحلة لا يحتاجها طالب العلم المبتدئ .

ومن تفاسير المعاصرين: أيسرالتفاسير لأبي بكر الجزائري ، وأضف إلى ذلك تفسير السِّعْدِي .

وهذا التفسير ـ مع أنه لقي قبولًا عند الكثيرين ـ أُحب أن ننتبه إلى مسألة مهمة، قد تمنع الطالب المبتدئ من الاستفادة منه في إدراك المعنى الإجمالي للآية على وجه التحديد ، وهي أن أسلوب الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ الذي سلكه، هو أسلوب إنشائي، والطالب حينما يقرأ كلام الشيخ، يقرأ كلامًا إنشائيًا، وهو يريد أن يعرف المعنى ولا يستطيع أن يصل إليه، والسبب هو الأسلوب الإنشائي الذي سار عليه الشيخ.

هذه المشكلة عولجت في التفسير الميسر، لكن عندنا مشكلة لم تُعَالج، لا في التفسير الميسر، ولا في تفسير الشيخ السعدي ، وهي المعنى اللُّغويّ الدقيق للفظة القرآنية، هذه لم يقع معالجته لا في هذا ولا في هذا، ولهذا نقول:
في هذه المرحلة يمكن أن يضيف طالب العلم له كتابًا في غريب القرآن لكي يتعرف على معنى الألفاظ من جهة لغة العرب، فيكون عنده الآن المعنى اللغوي للفظة من جهة، ومن جهة أخرى يكون عنده المعنى السياقي الذي يريده في مثل التفسير الميسر، أو غيره من هذه الكتب، وهذا جانب مهم جدًّا.

ما هو الكتاب الذي يختاره في تفسير غريب القرآن؟
هناك كتب كثيرة، وفي الغالب كتب غريب القرآن متقاربة، إلَّا الكتب المطولة مثل كتاب:
«المفردات» للراغب الأصفهاني.
أو «تفسير غريب القرآن» لأبي بكر الرازي صاحب «مختار الصحاح».
أو «عمدة الحفاظ» للسمين الحلبي.
حيث تعتبر كتب مطولة في كتب الغريب، لكن لو أُخذ أي كتاب آخر مثل:
«تحفة الأريب» لأبي حيان وهو مختصر جدا.
أو «تفسير غريب القرآن» لمكي.
أو غيرها من هذه الكتب التي نجدها موجزة، يمكن أن يستفيد منها طالب العلم.

ويغلب على كتب غريب القرآن: السلامة من المشكلات التي يسأل عنها طالب العلم كثيرًا، يعني: يغلب عليها السلامة سواء من جهة الاعتقاد أو غيرها من القضايا الأخرى.

فإذًا، إذا أضيف في هذه المرحلة كتاب في غريب القرآن تكون الآن عندنا الدائرة قد اكتملت في أنَّ عندنا هدف، وعندنا وقت للكتاب المُنتخَب، وعندنا أيضًا طريقة لهذه القراءة، وعندنا مجموعة من الكتب يمكن أن تكون في هذه المرحلة .

هذه المرحلة ليس لها زمن محدد، فلا يقول طالب العلم: كم نجلس في هذه المرحلة؟
ليس لها زمن محدد، لأن المسألة مرتبطة بكيفية استفادة الطالب، والطلاب يختلفون من طالب إلى آخر في سرعة الاستفادة، والوصول إلى المعلومة، والحصول على الفهم التام، ولهذا لا نقول هنا أن هذه المرحلة يمكن أن تجلس سنة أو سنتين، بل هي على حسب ما يستطيعه الطالب.

وأنا ـ ولله الحمد والمنة ـ ألاحظ بعض الطلاب الآن عندهم اجتهاد، وأيضًا عندهم حرص ودَأَب، وعندهم تخطيط، حتى إنه يكون أحيانًا تخطيط للساعات، وإن كنت أخشى على مثل هذا أن يكون أحيانًا فيه مشقة، ولهذا أنا أقول اربطوا أنفسكم بالتخطيط الأسبوعي، أي أن يقرأ ـ على سبيل المثال ـ كل أسبوع جزءً ما ، يعني قرأه اليوم أو قرأه في ثلاثة أيام أو في أربعة أيام، أفضل من أن يحُد نفسه بطريقة معينة فقد يترك كل الشيء، لكن يجتهد ألَّا يشق على نفسه وأن يكون مواظبًا على قراءته؛ لأن من أكبر العيوب التي نقع فيها هي الانقطاع عن مثل هذه الأعمال، لكن الحريص هو الذي يأخذ قليل العمل ويداوم عليه ، كما أشار الرسول صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم إلى أحب الأعمال إلى الله قليل العمل مع المداومة عليه.
وقليل العمل مع المداومة هو الذي سيثمر ثمرة كبيرة جدًّا.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة السالكين في هذا العلم:
أي أنه دخل في التخصص، وقد قرأ جملة من كتب علوم القرآن، وكان قد قرأ التفسير على الطريقة التي ذكرتها أولًا.

وهذه المرحلة لو تأملنا، سنجد أن كل من دَرَس في الدراسات القرآنية يمكن أن يكون دخل في هذا التوصيف الذي ذكرته .

هذه المرحلة يمكن أن نقسمها إلى مرحلتين، ويمكن أن ندمج المرحلتين معًا.

أهم أهداف هذه المرحلة:
الأول: معرفة أصول التفسير.
ثانيًا: معرفة الأقاويل في التفسير.
يعني: معرفة أقوال المفسرين، ومعرفة أصول التفسير.

لماذا أقوال المفسرين، ولماذا أصول التفسير؟
لأنه في المرحلة الأولى أخذ التفسير على معنًى واحد، وهو الآن سينتقل إلى مرحلة ثانية، يتعرف على أن هذه الآية أو هذه الجملة، أو هذه اللفظة فيها أكثر من قول عند المفسرين, وأن ما ذُكِرَ له هو انتخاب، وترجيح من صاحب هذا التفسير الذي كان يقرأ فيه، وذكر له وانتخب له هذا القول، هنا الآن تعرَّف على أنه يوجد أكثر من قول.

ولا شك أن من أكبر ما يعترض طالب علم التفسير هو كثرة الأقوال، فكيف يستطيع أن يتعامل مع الأقوال؟
الجواب : أن يعرف أصول التفسير.

فإذن هذه المرحلة يمكن أن نجعلها مندمجة مع بعض، إذ لو قلنا له تعرَّف على أقوال المفسرين، لن يكون هناك كبير فائدة إلا أنه في هذه المرحلة يعرف أن هذه الآية فيها عشرة أقوال، وهذه الآية فيها ثلاثة أقوال، وهذه الآية فيها ليس فيها إلا قول واحد، فلن تكون مفيدة أو مشجعة له في أن يستمر في علم التفسير.

وبناءً على هذا نقول له إذن: حاول أن تدمج مع هذه قضية التعرف على أصول التفسير.

أهم ما يجب أن يعرفه طالب علم التفسير في هذه المرحلة فيما يتعلق بأصول التفسير هي:
ـ طرق التفسير، المعروفة بتفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال السلف، وباللغة.
ـ وأسباب الاختلاف في التفسير.

وهذه من أهم ما يتعلق بأصول التفسير؛ لأنه بمعرفته لأسباب الخلاف سيظهر عنده مُوجِبَات الأقوال، يعني: ما هو الُموجب لهذا القول، لماذا قال ابن عباس بهذا القول، ولماذا قال قتادة بقول مخالف له، فيجد أنه حينما يعرف أسباب الاختلاف أنه استطاع أن يعرف موجبات هذه الأقوال، ومن أين صدرت.

وسأذكر مثالًا لذلك في تفسير: ﴿يوم يكشف عن ساق﴾: معلوم أن ابن عباس وتلاميذه ذهبوا إلى أن المراد أن القيامة تكشف عن شدة وهول وكربة، وهذا التفسير لُغَوِيَّ، يعني مأخوذ من اللغة.

آخرون قالوا: ﴿يوم يُكشف عن ساق﴾ قالوا: يكشف ربنا عن ساقه واستدلوا بالحديث الذي رواه الإمام البخاري: «يكشف ربنا عن ساقه»، وهذا مصدره الآن الحديث النبوي.

إذن الآن إذا أردنا أن نبحث: ما هو سبب الاختلاف؟
سبب الاختلاف هو اختلاف المصدر، فالذي اعتمد اللغة مصدرًا فسره بهذا التفسير، والذي اعتمد الحديث النبوي فسره بهذا التفسير.

وفي هذه المرحلة أتعرف على هذه الأسباب، وأعرف أنه ما يخرج من هؤلاء ـ خصوصًا السلف ـ ما يخرج منهم قول إلا وهناك مُوجِب أو سبب له، منها مثلًا ما ذكرته لكم.

ومن الأسباب ما قد تكون أسباب خفية، وهي أشبه بعلل الحديث، يطلع عليها المُتَمَرِّس في علم التفسير، ولا يطلع عليها الذي يقرأ قراءة سريعة، على سبيل المثال:
نجد مثلًا في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ يُورِد الطبري عن الزهري قال: «الإيمان : العمل» فقط.

لماذا فسَّر الزهري الإيمان بالعمل؟
لأنه أراد أن يرد على المرجئة، لأنك إذارجعت إلى التاريخ في تلك الفترة، تجد أن الإرجاء قد برز وظهر، فيظهر لك بذلك :
ما هو موجب هذا القول؟
ما هو سبب القول به؟
ما هو سبب الاختلاف في التعبير عن تفسير الإيمان؟
وستجد أن القول بالإرجاء هو سبب ومُوجِب لمثل هذا القول.

من أصول التفسير المهمة: أنواع الاختلاف:
وهي التي اختصرها شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ باختلاف التنوع واختلاف التضاد، وهي التي ذكرها ابن جُزي الكلبي في اختلاف اللفظ والمعنى، وهي أيضًا التي ذكرها الشاطبي في موافقاته، ولكنه لم يفصلها مثل ما فصلها هؤلاء، ولكنه أيضًا نظَّر لها .

ومعرفة أنواع الاختلاف وما الذي يؤول إلى قول واحد، وما الذي يؤول إلى أكثر من قول، وإذا آلت الأقوال إلى أكثر من قول هل يمكن الجمع بينها على سبيل التنوع، أو هي تتضاد بحيث لا بد من الترجيح= كل هذه تحتاج إلى دِرْبة وممارسة، وسأذكر لكم أثرًا من كتاب الإمام ابن جرير الطبري يفيد كثيرًا جدًّا في هذا الباب، وهو باب أنواع الاختلاف، يعني: كيف نتعامل مع الاختلاف؟

من القضايا المهمة: قواعد الترجيح:
وقد خُدِمْنَا بها ـ ولله الحمد والمنة ـ بكتابة الدكتور حسين الحربي ـ حفظه الله ـ، وكذلك بكتابة الدكتور خالد السبت في قواعد التفسير، وإن كان كتاب الدكتور حسين أخص بما يتعلق بقواعد الترجيح، وقد اختصر كتابه ، ويمكن أن يُستفَاد منه في التدريس سواء في الجامعات أو أيضًا في الدورات العلمية ، ويكون الكتاب الكبير مرجعًا يمكن أن يستفيد منه الطالب ويراجع فيه.

هذه القواعد تمثل كيفية التعامل مع الاختلاف الواقع بين المفسرين.
وهذه بعض ما يمكن أن يُقَال في أصول التفسير.

هناك قضيتان مهمتان، لكنها تأتي في مرتبة أقل من هذا، والتعرف على مصطلحات المفسرين، خصوصًا إذا كانت مصطلحات تبنى عليها قضايا علمية، وقد انتشر الآن ـ مثلًا ـ أن النسخ عند السلف ليس كالنسخ عند المتأخرين، مثلًا:
هذا لو لم يعرفه طالب العلم فإنه سيقع عنده إشكال، وكثيرًا ما يقرأ في بعض عبارات السلف: حينما يأتي مثلًا إلى من يقول من السلف :
﴿لابثين فيها أحقابا﴾ يقول: نسخها قوله تعالى: ﴿فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا﴾.بلغ هنا
وأنت قد أخذت قاعدة أن الأخبار لا تُنْسَخ، فالذي سيقع عندك أنك ستقول: أخطأ فلان.

ولكن إذا عرفت أن مصطلحه في النسخ أوسع من مصطلح المتأخرين، وأنه يريد به أي رفع من معنى الآية ، فإنه لن يقع عندك إشكال في مثل هذا، وسيكون صحيحًا.

ومعرفة مصطلحات المفسرين, وطرائقهم في التعبير عن التفسير أيضًا من القضايا المهمة.
من ما يمكن أن يطرح في هذه المرحلة:
القراءة في بعض الكتب التي لها علاقة بعلم التفسير، غير كتب التفسير، مثل كتب: معاني القرآن، أو كتب توجيه القراءات، هذه مهمة جدًّا في أن يقرأ فيها الطالب، وأن يتثقف من خلال هذه الكتب، وكذلك كتب الناسخ والمنسوخ، وكتب أسباب النزول، هذه كلها روافد يمكن أن يستفيد منها في حال قراءاته وستلاحظون أن الكم المذكور الآن لو أردنا أن نطرح الكم المذكور من الكتب، هو كثير جدًّا ، فضلًا عن الكتب المتعلقة بعلوم القرآن.

ولهذا أقول :
إن هذه المرحلة هي مرحلة البناء الحقيقية لطالب علم التفسير.

ذكر بعض الكتب التي عنيت بذكر الأقوال :
لو أراد طالب العلم أن يطلع على الأقاويل فقط دون غيرها، فإن هناك عدد من الكتب التي تفيده في ذلك ، ومن من الكتب التي عُنيت بالأقاويل تفسير الماوردي ( النكت والعيون ) وقد اعترض عليه العلماء بأنه ينقل أقوال المعتزلة ، ولا يردُّ عليها ، حتى إنه اتهم بالاعتزال بسبب هذا .
هناك كتاب استفاد منه وتخلص من هذه الإشكالية ـ إشكالية نقل أقوال المعتزلة ـ وهو «زاد المسير» لابن الجوزي ، فإنه يذكر أقاويل المفسرين منسوبة إليهم، وهذا الكتاب «زاد المسير» كان أحد العُمَد التي يرجع إليها شيخ الإسلام ابن تيمية حينما يذكر أقوال المفسرين، وكان يُعني كذلك بتفسير ابن عطية، وتفسير ابن جرير، وتفسير البغوي، وتفسير ابن أبي حاتم ، هذه من أكثر الكتب التي يرجع إليها حينما يريد أن يحرر خلافات المفسرين، ويذكر أقاويل مفسري السلف بالذات.
ويمكن أن يضاف إليها في معرفة الأقاويل كتاب الدر المنثور، وتفسير ابن كثير.

من الكتب التي يمكن أن يستفيد منها الطالب في هذه المرحلة، هي كتب المحررة في هذا العلم، تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن عطية الأندلسي، وتفسير ابن جُزَي الكلبي، وتفسير أبي حيان، وتفسير ابن كثير ، وتفسير الطاهر بن عاشور أنا أذكر هذه الستة فقط الآن، وسأذكر لماذا ذكرت هذه الكتب؟

أما تفسير ابن جرير الطبري ، فقد سبق أن ذكرت لكم أهميته خصوصًا في قضية تأصيل الوصول إلى المعنى ومعرفة طريقة مناقشة خلافات المفسرين، والقواعد العلمية التي سار عليها، ابن جرير الطبري.

وأما ابن عطية فتفسيره كما سماه «المُحَرَّر الوجيز» ، وهو اسم على مسمى ، ففيه تحرير بالغ جدًّا، وفيه عناية بتوجيه أقوال السلف، يمكن أن يستفيد منها طالب علم بالتفسير، لو جمعها، فإنه ستُكَوِّن عنده قاعدة في كيفية التعامل مع الأقاويل الأخرى التي لم يتطرق لها ابن عطية.

أضرب لكم مثالًا، ارجعوا إلى قوله تعالى: ﴿للسائل والمحروم﴾ فقد ذكر أقوال السلف في المراد بالمحروم، واعتبر ذكر أقوالهم على أنها اختلاف محقق تخليط من بعض المتأخرين وقد نبه على أن تفسيرات السلف كلها من باب المثال للمحروم، فمن أصاب زرعه جائحه يُعدُّ محرومًا، من سُرق ماله يُعدُّ محرومًا، من لم يُعط من الغنائم: يُعدُّ محرومًا، إذن فهو جعل المحروم لفظًا عامًّا يندرج تحته هذه الأقاويل، وهي على سبيل المثال.

ولمَّا تُدرَّب على مثل هذه الطريقة، وغيرها من طرائق ابن عطية، يمكن أن تطبقها على أمثلة كثيرة، ويكون عندك دِربة ومُكنة في أن تطبقها على أمثلة كثيرة.

ومن لطائف ابن عطية في هذه الآية:
أنه ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: المحروم: الكلب.
ونحن لو نظرنا إلى هذا القول لاستغربناه، إن لم نستبشعه، ونقول: إنه كيف الكلب المحروم؟!
قال ابن عطية يوجه هذا القول:
وكأنه أراد أن يضرب مثلًا لذات كبد رطبة، وليس مراده أن الكلب هو المحروم دون غيره، فأراد أن يضرب مثالًا للمحروم.

أيضًا أورد قولًا للشعبي: قال: أعياني أن أعلم ما المحروم؟
قال: والشعبي محروم في عدم معرفته للمحروم؛ لأنه أراد معينًا في معنى المحروم والآية على العموم، يعني أراد أن يعين، المحروم هذا من هو بعينه؟!
فالشعبي ـ رحمه الله تعالى ـ لأنه ذهب هذا المذهب أعياه معرفة من المحروم، فجاءت عبارة ابن عطية اللطيفة هذه.
وعمومًا ابن عطية في هذا الباب ـ في طريقة توجيه أقوال السلف ـ أصل، ورأيت أنَّ شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم قد استفادا منه في هذا الموضوع فائدة واضحة جدًّا.

وأما تفسير ابن كثير معروف لديكم، وخصوصًا فيما يتعلق بربط الأحاديث النبوية بالآية القرآنية، وهو يتميز بهذا عن جميع المفسرين، ولا أعرف من قاربه في هذا الباب.

وأما أبو حيان الأندلسي فصاحب تحريرات ، وقد استفاد من ابن عطية ومن غيره.

وأما الطاهر بن عاشور صاحب كتاب «التحرير والتنوير» أيضًا في نظري أنه غني عن التعريف لمثلكم، فهو أيضًا كتاب فيه تحريرات ونفائس ، خصوصًا في بلاغة القرآن ومشكلات التفسير ، ويمكن أن يبني طالب العلم ويجعل عنده مُكْنة في علم التفسير.

هذا باختصار بعض الكتب، وكما قلت لكم:
هذه المرحلة مرحلة مختلفة ويمكن أن تطول كثيرًا.
هناك كتب كثيرة ليس المجال الآن مجال ذكرها أو معرفة خصائصها ومناهج مؤلفيها .

ما الذي نحتاجه في هذه المرحلة؟
1 ـ الحرص على استظهار الأقاويل في الآية، بمعنى أن طالب العلم في هذه المرحلة يحرص على أن يكون عارفًا بما قيل من أقوال في هذه الآية.

قد يقول قائل:
إذا جئت إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿والشفع والوتر﴾ أو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وشاهد ومشهود﴾ التي ذكر فيها بعض المفسرين أكثر من خمسة وعشرين قولًا، فهل يلزم أني أعرف كل هذه الأقوال؟
نقول: لا، لكن إذا كان في الآية قولان، ثلاثة أقوال؛ فإن معرفتها مطلوبة ، لكن ما ورد في الآيتين السابقتين هو من باب المثال، لذا لا نحتاج إلى معرفة جميع الأقوال فيهما ، بل يكفي ذكر بعضها على سبيل المثال بعد التنبيه على العموم فيها .

واستظهار الأقاويل مهم في هذه المرحلة؛ لأنه سيبنى عليها الترجيح، ومعرفة ما هو القول الصحيح في الآيات.

2 ـ الحرص على معرفة أقاويل السلف خاصة، وأقصد بالسلف الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهذه كما قلت لكم لها كتب تعتني بهذا يمكن أن تراجعها ، وقد سبق ذكر بعضها .

لماذا نحرص على معرفة أقاويل السلف؟
هذه مسألة يطول ذكرها، لكن من أهمها ـ وأريد أن ننتبه إلى هذه القاعدة لأننا قد لا نستطيع أن نشرحها كاملة ـ:
لا يمكن أن يوجد آية لم يفهم السلفُ معناها.

هذه قاعدة يُبنى عليها أن معنى ذلك أن ما من آية وإلا وللسلف فيها كلام ، ختى إنهم تكلموا عن الحروف المقطعة التي ظنَّ بعض المتأخرين أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، وتفصيل مذهبهم في الحروف المقطعة وما ينتج عنه من فوائد له محل آخر .
والمقصود أنه ما دام السلف تكلموا عن آيات القرآن ، فإنه لا يمكن أن يكون هناك آية لم يفهموا معناها، ؛ لأنه يلزم منه أن في القرآن ما لم تفهمه الأمة في وقتهم ، وهذا محالٌ .

إذن هم فهموا معاني القرآن من حيث الجملة، وما من آية إلا ولهم فيها فهم صحيح على وجه معتبر من وجوه التفسير .

وعلى هذا الوجه من تقرير هذه المسألة يترتب قولنا :
بأن تفسيرهم حجة ، ومعنى ذلك أن ما قالوا من حيث الجملة حجة .
فإن كانوا قد أجمعوا عليه فلا ريب في حجيته.

وإن كانوا اختلفوا اختلافًا محققًا ( أي : ليس اختلافًا يمكن غئتلاف الأقاويل فيه على معنى ) ، فإنه لابدَّ أن يكون أحد أقوالهم حق يوافق المراد ، وعملنا نحن أن نعمل بأرائنا في تتبع أقوالهم ، واختيار الرأي الذي نراه هو الصحيح بناءًا على القواعد العلمية المعتبرة ، وهي قواعد الترجيح وقرائنه التي عَمِل بها بعض علماء التفسير من المحققين ، ثم إن وصولنا إلى القول الصحيح ظنِّيٌّ ، لكن عندنا يقين بأن ما قاله الصحابة والتابعون وأتباع التابعين فيه المعنى الصحيح.

لكن بعد اجتهادنا في اختيار القول ، واعتمادنا على وجوه الترجيح ، فإنه قد يكون القول الآخر هو الصحيح ، وليس ما اخترناه ، وإنما سبيلنا في هذا أن نعمل بالأسلوب الأمثل في طريقة التفسير والترجيخ فيه ، وهذا لا يعني أن التنازع سينقطع ، بل سيبقى موجودًا .

الحرص على معرفة الأقاويل الصحيحة المحتملة في الآية التي جاءت بعد السلف:
هذه المسألة مهمة جدًّا ؛ لأنها تدلنا على كيفية إضافة هذه الأقوال إلى ما قاله السلف ، وقد سبق أن فصلت فيها في مقال مستقل ، وهذه المسألة تدل على أنه يوجد عندنا أقوال قالها من جاء بعدهم، وهي صحيحة والآية تحتملها ولا تنقض أقوال السلف، فكيف نستطيع أن نرتبها على الآية؟!

ونقول:
إذا كانت قد حصلت فيها هذه الضوابط ، فإنه يمكن القول بالأقوال الجديدة التي أتت بعدهم ، لكن لا يمكن ـ بحال ـ أن تكون هذه الأقوال أصح من أقوالهم ؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون القرآن لم يُفهم على وجهه الصحيح خلال تلك الأزمان ، وتلك فيها مشكلة أخرى ، وهي أن بيان الله سبحانه لهؤلاء كان ناقصًا ، وهذا محالٌ أيضًا .

عندنا أيضًا من القضايا المتعلقة بهذه المرحلة:
التعرف على منهج المفسر الذي نريد أن نقرأ له:
وهذه قضية مهمة، نختم بها هذه المرحلة.

قد نقرأ تفسير الشيخ السِّعدي، أو تفسير ابن كثير، أو تفسير ابن جُزَي، ونغفل عن هذه الحيثية، وهي الاجتهاد في التعرف على منهج المفسر.

فما دمت سأقرأ ما أقرأ من كتب التفسير ، فلماذا لا أجتهد في تقييد منهج هذا المفسر ومعرفة القواعد العلمية التي سار عليها، وطريقته في التعبير عن التفسير، وطريقته في ترتيب كتابه، هذا من القضايا المهمة التي لا بد أن ننتبه لها لأنها تفيدنا في مراحل متقدمة حينما نريد أن نقدم علم التفسير، أو مناهج المفسرين للطلاب.

المرحلة الثالثة: هذه مرحلة التوسع في العلم:
وهذه المرحلة يمكن أن نسميها المرحلة البحثيَّة:
لأنها مرحلة مطلقة يُقرأ فيها ما يُقرأ، ويُستفاد مما يُستفاد من الكتب القريبة من التخصص أو قد تكون بعيدة عن التخصص، أيًّا كان، فهذه مرحلة بحثية واسعة جدًّا، يمكن أن يمارس فيها الطالب في هذه المرحلة ـ وهو سيكون الآن ليس طالبًا ـ هو في نظري في هذه المرحلة سيكون شيخًا ، فإنه يمارس فيها قراءات متعددة، ويوظفها في تفسير القرآن.
كلما وجد كتابًا يمكن أن يستفيد منه في تفسير القرآن يمكن أن يضيفه.

ولعلي أذكر قضية وإن شئتم نقف عندها ونتناقش فيما سبق:
هي قواعد عامة يحسن مراعاتها عند القراءة في الكتب التفسير وهكذا أيضًا في الكتب الآخرى:
أول قضية:
العناية بالتعرف على منهج السلف ومن سار على منهجهم من خلال التطبيقات العملية التي يقومون بها في تفاسيرهم.

وهذه القضية أؤكد عليها تأكيدًا شديدًا، وأقول من أراد أن يعرف التفسير ويعرف كيف يصل إلى فهم المعنى، عليه بهذه المسألة؛ لأن جملة تفسير السلف ـ يعني: الغالب على تفسير السلف ـ يتجه إلى بيان المعنى، ولو أردت أن تنتخب تفسيرًا من تفسير السلف لتبين فيه المعنى فإنك ستجدك تستطيع أن تنتخب تفسيرًا كاملاً ، وبعض الآيات التي لا تجد للسلف فيها كلامًا ـ وهي قليلة جدًّا ـ فإنها من الوضوح بمكان، وهي كما قال الشافعي : ( تنزيله يغني عن تأويله ) ، وهذه الآيات لا تحتاج إلى أن تبحث ماذا قال فلان، أو ماذا قال الآخر.

والمراد أننا لو أردنا أن نجمع تفسير للسلف من خلال المأثور عنهم، سنستطيع أن نخرج بتفسير يجمع لنا معانٍ الآيات بوضوح تام.

أيضًا من القواعد التي يحسن التنبه لها:
العناية بتطبيق أصول التفسير على ما يقرأ من التفسير:
إن تطبيقاتك في أصول التفسير من أهم الأمور التي يجب أن تنتبه لها، إما أن تعمل هذا وحدك، أو أن تكون مدارسة بينك وبين بعض زملائك، أو أن تكون مدارسة مع شيخ من المشايخ، المهم أن تجتهد في تطبيق ما درسته في أصول التفسير على كتب التفسير التي تقرأ فيها لكي تكون صاحب دِربة على التعرف على أصول التفسير تطبيقًا، لأنه لا يكفي الجانب النظري.

ومن القواعد : الرجوع إلى موارد المفسر:
إذا كنت عَّينت كتابًا من الكتب على أنه أصل من الأصول التي تقرأ فيها ، وتداوم عليها ، فإنه كلما استطعت أن ترجع إلى موارد ( مصادر ) المفسر التي رجع إليها، وتربط بين نقولات المفسر والأصول التي رجع إليها، فإنك ستجني من الفوائد ما لا لا تكاد أن تجنيه لولا رجوعك إليها ؛ إذ قد يكون نقل المفسر بالمعنى ، وكلام المنقول عنه فيه فوائد وتحقيقات تحتاج إليها .
ومن القواعد:
التركيز على كلام المفسر في تفسير الآيات المتصلة بالفن الذي يتميز به المفسر:
سنجد ـ مثلًا ـ بعض المفسرين تميز بفن معين قد صبغ تفسيره به ، وإذا أدركت أن هذا المفسر وجهته ـ مثلًا ـ إلى التفسير الفقهي، أو النحوي ، فإن تركيزك على القواعد والفوائد التي يذكرها في هذا الباب مهم للغاية؛ لأنه قد يذكر من الفوائد والضوابط في كيفية الاستفادة من هذا العلم في التفسير ، أو قد يذكر تقييدات علمية ترتبط بهذا الاتجاه ، أو غير ذلك من الفوائد .
فتنتبه إلى اتجاه المفسر العلمي الذي برز فيه، واجتهد في أن تضبطَ أصول هذا العلم من خلال القضايا التي يطرحها.

القاعدة الأخيرة:
ـ وهي قاعدة سبق ذكرها ولا بأس بتكرارها ـ وهي الحرص على تقييد الفوائد التي يستفيدها طالب العلم من الكتب .

وأنا أركز على هذه الفائدة، وأقول إنها من أهم ما يمكن أن يجنيه طالب علم التفسير، أو طالب العلم عمومًا ، وهو تقييد الفوائد.

وسأذكر لكم مثالاً ـ ذكرته قبل قليل ، وهو حاشية الجمل على الجلالين.

من أراد أن يعرف فائدة أسلوب الجمل ـ رحمه الله تعالى ـ فليفعل الآتي :
1 ـ يحدِّد سورة من السور القصار؛ مثل سورة التين، سورة النصر.
2 ـ يجعل أحد التفاسير أصلًا يقيد عليه الفوائد .
3 ـ ينتخب الفوائد من هذه الكتب، ويدوِّنها إما تعليقًا إن كانت يمكن أن تكون تعليقًا كاملاً ، وإما إشارة إلى رأس المسألة ومرجعها بالجزء والصفحة .

وإذا فعلت هذا من خلال خمسة تفاسير ـ مثلاً ـ فانظر كم سيجتمع لك من الفوائد!

هذا خلال أسبوع، لو كنت تستخدم هذه الطريقة وتعتمدها اعتمادًا تامًّا وتقيِّد كل ما تقع عليه من فوائد على أصلك الذي اعتمد من كتب التفسير ، فانظر بعد عشر سنوات كم من الفوائد ستكون عندك؟!

ومادام هذا هدفًا من الأهداف الرئيسة عندك، فتأمَّل؛ ستجد أنك في النهاية قد انتخبت من كثير من التفاسير ما تميل أنت إليه بطبيعتك، لأن كل واحد يميل إلى فوائد لا يميل إليها الآخر.

وأقول:
من أراد أن يجرب، فليجرب في أسبوع، وينظر كم من الفوائد التي سيجنيها .
وهذه القضية مهمة جدًّا، وهي تقييد الفوائد.

وكما قلت لكم:
ليس كلنا يستطيع أن يحفظ، لكن من قيَّد فائدة، فإنه يرجع إليها ويعرف أنه قيد هذه الفائدة، فيرجع إلىها الكتاب ويجدها.

وأقف هنا لنناقش معكم بقية الأفكار إن كان هناك بعض أفكار سيطرحها الأخوة، لأن عندي مناهج غير هذا المنهج ذكرها بعض الأخوة في طريقة دراسة علم التفسير، لعل بعض الأخوة يذكرها، أو أذكر لكم أيضًا ما ذكره آخرون في منهج تلقي التفسير .اهـ


______________________
هذا الكتاب ( المنهجية العلمية لدراسة التفسير ) عبارة عن محاضرة ألقاها الشيخ مساعد الطيار بديوانية الدراسات القرآنية بمحافظة الطائف بتاريخ 17/10/ 1430هـ.
ثم تم تفريغها وعرضها على الشيخ حفظه الله
فراجعها وزاد عليها أمورا مهمة. فجزى الله خيرا كل من أعان على إتمام هذا العمل المبارك.
أبو مالك العقرباوي
المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir17876/#ixzz229lPL6Ei

هناك تعليق واحد: