17‏/12‏/2016

(بُلْغَةُ المُقتصِد من رِوَاية القراءات) د. ضيف الله الشمراني



(بُلْغَةُ المُقتصِد من رِوَاية القراءات)
د. ضيف الله الشمراني




بسم الله الرحمن الرحيم

علم القراءات القرآنية من الفنون التي لا تكادُ تجدُ لها ذِكرًا في البرامج العلمية والدورات الشرعية والخِطَط المنهجية التي يلهج بذكرها أكثر طلبة العلم، فهو علمٌ "غَريب الوجه واليد واللسان"، لا يذكره أكثر العلماء وطلاب العلم في بيئتنا العلمية ومُحيطنا المَعرِفي إلا على سبيل بيان مفضوليته، وأن غيره من علوم الشريعة مقاصدها ووسائلها أولى بالدرس منه.

وعلى الرغم من كل ذلك فلم يكن هذا الأمر عائقًا لمن عَرَف فضل هذا العلم الشريف وموضوعه وثمرته عن البحث في سبل تعلّمه، ومدارج الترقّي فيه.

ولما كان يعسر على كثير من طلبة العلم الإحاطة بالقراءات العشر كلها، وما يستلزمه ذلك من حفظ متونها ومراجعتها وعرض ما تضمَّنتْه من قراءات على شيوخ هذا العلم؛ رأيتُ أن أكتب منهجية تكون بمثابة: (ما لا يسع طالب العلم الشرعي جهله من رواية القراءات).

هذا المنهجية دون تعقيد تقوم على: (استيعاب الروايات المتداوَلة في العالَم اليوم).

إذا تأمَّلت وضع القراءات القرآنية من حيث الانتشار الواقعي في عالَم الناس اليوم ألفيتَها تقتصر على أربع روايات:
1. رواية حَفْص (بن سليمان) عن عاصم بن أبي النَّجُود الكوفي.
2. رواية وَرْش (عثمان بن سعيد) عن نافع بن عبد الرحمن المدني.
3. رواية قَالُون (عيسى بن مِينا) عن نافع بن عبد الرحمن المدني.
4. رواية الدُّورِيّ (حَفْص بن عمر) عن أبي عمرو بن العَلاء البصري.

هذه الروايات الأربع رتَّبتُها بحسب حجم انتشارها في العالَم، فرواية حفص عن عاصم هي الأولى، تليها رواية ورش عن نافع، ثم رواية قالون عن نافع، ثم رواية الدوري عن أبي عمرو البصري.

جَرَت العادة بأن يحفظ الطالب القرآن على الرواية المشهورة المنتشرة في بلده، فيحفظ الليبي برواية قالون، ويحفظ المغربي برواية ورش، ويحفظ السوداني برواية الدوري، ويحفظ أكثر الناس برواية حفص عن عاصم، وما جَرت به العادة هنا هو المنهجية الصحيحة في الأخذ والتلقّي لهذا العلم.

بعد إتقان طالب العلم للرواية المشتهرة في بلده حفظًا وتجويدًا، وقراءة ختمة كاملة بها على مقرئ متقن يُجيزه بروايتها = ينتقل بعد ذلك إلى رواية أخرى، وهنا سؤال:

هل ينتقل الطالب إلى أي رواية شاء؟

والجواب: له ذلك، لكن الأفضل -عندي- أن يتدرَّج مع شيخه بالطريقة الآتية:

أولًا: من كانت ختمته الأولى لحفص عن عاصم: يثنّي بشعبة عن عاصم، ثم يثلِّث بقالون عن نافع، ثم يربِّع بورش عن نافع، ثم يختم بالدوري.
ثانيًا: من كانت ختمته الأولى لورش: يثنّي بقالون، ثم يثلِّث بحفص، ثم يختم بالدوري.
ثالثًا: من كانت ختمته الأولى لقالون: يثنّي بورش، ثم يثلِّث بحفص عن عاصم، ثم يختم بالدوري.
رابعًا: من كانت ختمته الأولى للدوري: يثنِّي بالسُّوسِي، ثم يثلِّث بحفص عن عاصم، ثم يربِّع بقالون، ثم يختم بورش.

وأنتَ ترى أني أضفتُ رواية شُعْبة (أبو بكر بن عَيّاش) عن عاصم لمن كانت قراءته الأولى لحفص عن عاصم، وزدتُ رواية السُّوسِي (صالح بن زياد) عن أبي عمرو لمن كانت روايته الأولى للدوري عن أبي عمرو، مع أن هاتين الروايتين ليستا بمشتهرتين كالباقيات؛ لكن استحسنتُ إضافتهما لأمرين:

الأول: أنه يسهل على من كانت قراءته الأولى حفصًا أن يضيف إليها شعبة؛ لأن الخلاف بين الروايين يسير، سهل الاستيعاب، والطالب في هذه الحال معتاد على رواية حفص يقرؤها بكرة وعشيًّا، فيمكن أن يضيف على مصحفه الفروق، ويحيط بها باقتدار تام.
وكذلك الحال لمن كانت قراءاته الأولى الدوريَّ، فإنه يسهل عليه استيعاب فروق رواية السوسي.

الثاني: أن نفس القارئ تتشوَّف إلى استكمال الرواية الأخرى عن القارئ الذي يقرأ لأحد راوييه؛ ليأخذ قراءة الإمام بكمالها، ومن جرَّبَ عرف.

وقد جمع الشيخ الشريف أحمد بن محمد أحمد الشنقيطي الروايات الأربع المشهورة في نظم سمّاه:
"رواية الأعلام في المصاحف الأربعة الكرام"، فإن كنتُ من محبّي الأنظام؛ فاستفد منه، وإن كنتَ غير ذلك؛ فعليك بالكتب المصنَّفة على طريقة الجداول، وأشهرها: كتب الشيخ محمد نبهان مصري الحَمَوي (ت1436هـ) -رحمه الله-.

واستمع أيضًا إلى المصاحف المجوَّدة لهذه الروايات المجازة من الهيئات العلمية المعتبرة في هذا الشأن.

ويبقى بعد ذلك الإشارة إلى القارئ يحتاج إلى التلاوة أحيانًا بقصر المد المنفصل، فمن كان يقرأ للدوري أو لقالون = جازَ له القصر والتوسط.

ومن كان يقرأ لحفص عن عاصم ولورش عن نافع من الطريق الأشهر (طريق الشاطبية) فليس له إلا التوسط لحفص، والإشباع لورش، ومن هنا فإنه يحسن بمن كانت قراءة بلده بإحدى هاتين الروايتين أن يتعلَّم ما يترتَّب على القصر فيهما من أحكام، فيتعلَّم رواية ورش من طريق الأصبهاني، ورواية حفص بأحد طرق القَصْر، وأختارُ طريق كتاب المصباح لأبي الكرم الشَّهْرَزُورِي، ولن يكلِّفك ذلك -إن شاء الله- ما يعسر عليك.

ومعلومٌ أن هذا العلم لا يُؤخَذ إلا مُشافَهة عن الشيوخ الأثبات الذين رووه عن شيوخهم، فعليك يا طالبَ العلم بلزوم مقرئ متقن مدقِّق ديِّن وَرِع، وإن لم تجد ذلك في بلدك فارحل إلى الحرمين، ففيهما -إن شاء الله- تقضي نَهْمتك، وتُحَصِّل بُغْيتك.

ولا يكن همُّك منصرفًا إلى الختم في أقل مدَّة، أو التكثُّر بالأسانيد، دون مراعاة لما ذكرتُه لك من صفة الشيخ الذي يستحق أن تجلس بين يديه، وتروي عنه.

وإياكَ إياكَ أن يكون قصدك بتعلِّم هذه الروايات والقراءة بها شيئًا من أغراض الدنيا الخَسيسة، كالظُّهُور على الأقران، والاستعلاء على عباد الله، وتحصيل المال والجاه، فإنْ فعلتَ فإنكَ إذًا من الخاسرين!

والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.



وكتبَ: ضيف الله بن محمد العامري الشمراني
المدينة النبوية
يوم السبت: 9 / 10 / 1436هـ

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك كتب الله أجرك وجزاك الله خيرا

    ردحذف