29‏/12‏/2016

(المعالم العشرة في حفظ المتون) للشيخ/ د. خالد بن عثمان السبت [محاضرة مفرغة كاملة]


(المعالم العشرة في حفظ المتون)

للشيخ/
د. خالد بن عثمان السبت
-حفظه الله-

أصلها محاضرة علمية صوتية فُرغت كاملة كتابيا
ولسماعها صوتيا يرجى الدخول لهذا الرابط:
https://www.khaledalsabt.com/cnt/lecture/1470

قام بتفريغها:
فريق الأخوات للتفريغ
@fareektafree3
tafree3.fareek@gmail.com



لتحميلها مصورة (PDF) يرجى الدخول إلى هذا الرابط:
https://drive.google.com/file/d/1KkCJRqfIracCZbiALxGEaNXssjK43TW6/view?usp=sharing

لتحميلها مصورة (WORD) يرجى الدخول إلى هذا الرابط:
https://docs.google.com/document/d/1h7S-sYIwdxqksJHI5zBP5giGSWTnJf_x/edit?usp=sharing&ouid=104830630477544213287&rtpof=true&sd=true

ــــــــــ ،،، ــــــــــ


بسم الله الرحمن الرحيم


(المعالم العشرة في حفظ المتون)
محاضرة لفضيلة الشيخ الدكتور/ خالد بن عثمان السبت
-حفظه الله-

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمرحبًا بكم في بداية هذه الدورة التي أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلها نافعةً، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والنية الصحيحة، وأن يبلغنا مراضيه، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يغفر لنا ولكم أجمعين.

أيها الأحبة: في هذه الليلة سأطرح هذا الموضوع الذي قرأتم عنوانه، وهو (المعالم العشرة في حفظ المتون)، وهذا الموضوع وإن كان يتصل بحفظ المتون إلا أنه ينفع سامعه بإذن الله -عز وجل- وإن لم يكن مما يشتغل بحفظها.
 ينفعه من جهة أنه لربما يوجه غيره من ولدٍ، أو قريبٍ، وتلميذ، ثم أيضًا ينفع من جهة أنه فيما أظن نموذج ومثال للتخطيط الذي أظنه أقرب إلى الواقع وأسلم، وأنفع، وأخصر في البلوغ إلى المطلوب.

 المشكلة -أيها الأحبة- أننا في كثيرٍ من أحوالنا وأعمالنا وبرامجنا العلمية، نسير من غير خطة، فالإنسان لربما يلتحق في برنامج يُعلن عنه هنا أو هناك، ولكن ماذا بعد ذلك؟
ما هي الخطوات التي تكون بعد هذه الخطوة؟ لربما لم يفكر.
ماذا تُريد أن تنجز بعد أربع سنوات، بعد ست سنوات، بعد عشر سنوات، كيف سيكون حالك مع هذه البرامج من مذاكرةٍ ومراجعةٍ؟ كل ذلك لربما لا يفكر كثيرٌ منا فيه.

 على كل حال أبدأ بما اجتمعنا من أجله، فأقول: لا يخفى على أحد ما للحفظ من أهميةٍ بالغة، فطالب العلم لا يستغني عن الحفظ، ولكن يجب أن يكون مع هذا الحفظ الفهم الصحيح، وذلك أن العلوم الشرعية ليست كالرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء أو نحو ذلك من العلوم الطبيعية التي تحتاج إلى فهم.

العلوم الشرعية تحتاج إلى أصل العلم الذي هو الكتاب والسُنَّة، فإذا لم يكن طالب العلم يحفظ النصوص من الكتاب والسُنَّة (قال الله -عز وجل-، قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-) ولا يحفظ مواطن الإجماع، ومواطن الخلاف، ومذاهب أهل العلم، فكيف يتكلم في العلم؟!

 إن الكثيرين -أيها الأحبة- ممن تأثروا بمعطيات الحضارة الغربية، ومناهجها، ونظمها في التعليم وفي غيره رجعوا إلينا يتكلمون بكلامٍ عام من غير تفصيل، فيذمون الحفظ ويعيبونه، ويرون أنه لونٌ من الاستهلاك والإنهاك لأذهان التلاميذ، وهذا خطأ؛ لأن هؤلاء إنما يتحدثون عما عرفوه من علومهم وتخصصاتهم، ولكن كيف يمكن لطالب العلم الشرعي أن يُطالب بالفهم فقط، ولكنه لا يحفظ الأدلة، ولا يحفظ مذاهب أهل العلم، فكيف يتكلم؟!

ففرقٌ كبير بين العلوم الشرعية وبين غيرها؛ ولهذا قيل: العلم ما حواه الصدر، وحظ المرء منه بقدر ما يستظهر منه في قلبه، وقالوا: لا خير في علمٍ لا يعبر معك الوادي، ولا يعمر بك النادي، بل قال: الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير في كتابه (أليس الصبح بقريب): لا يُعتبر العالم عالمًا ما لم يكن كثير الحفظ. نعم إنه إن ضم إلى ذلك الاستنباط، والتحقيق نال شهرًة كبرى، ولكن لا يُعد عالمًا ما لم يكن كثير الحفظ. هذا كلامه، وهو من أكثر الناس عنايةً بطرائق التعليم، وقد نبغ منذ شبابه وتفطن إلى أمور بعد ذلك، قال بعدها: بأنه لو أدركها لما احتاج إلى كثيرٍ من الجهد الذي بذله والأوقات التي قضاها في مجالس العلم.

وقد حفظ لنا التاريخ -أيها الأحبة- نماذج فذة في الحفظ، فالشعبي -رحمه الله- كان آيةً فيه، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجلٌ بحديثٍ قط إلا حفظته ولا أحببت أن يعيده علي، وكان يقول: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلًا يُحدث بحديث إلا أنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه إنسان أو رجل لكان بها عالمًا، وكان -رحمه الله- أيضًا يقول: ما أروي شيئًا أقل من الشعر. أقل ما يحفظ هو الشعر، ويقول: ولو شئت لأنشدتكم شهرًا لا أعيد بيتًا.

أما الأصمعي فكان باقعةً وأعجوبةً من أعاجيب خلق الله -عز وجل- كان يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، ويقول ابن الأعرابي وهو الراوية المعروف: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ما فيها بيتٌ عرفناه. هذا لا يقوله رجل من العامة، يقوله رجل راوية للشعر ولكلام العرب، ويحفظ الكثير منه.

 وقد وقع له موقف عجيب يدل على شدة حفظه، وما أعطاه الله وحباه من الحافظة، يقول أحمد بن عمر النحوي: قدم الحسن بن سهل، -والحسن بن سهل أمير من الأمراء-، فجمع أهل الأدب، يقول أحمد: وحضرت، وكان الأصمعي موجودًا، يقول: ووقع الحسن -هذا الأمير- على خمسين رقعة: (طلبات للناس، وحاجات..، فيكتب عليها: يُعطى هذا كذا، وهذا يُعطى كذا، وهذا يُعطى كذا)، على خمسين رقعة، وفي أثناء المجلس جرى ذكر الحُفاظ، يقول: فذكرنا الزهري، وقتادة، فقال الأصمعي: فأنا أُعيد ما وقَّع به الأمير على التوالي، بالترتيب خمسين رقعة، يقول: فأُحضرت، فقال: بدأ يعد الأصمعي الآن، فقال: صاحب الرقعة الأولى: كذا وكذا، واسمه كذا وكذا، ووقَّع له بكذا وكذا، والرقعة الثانية كذا وكذا، والثالثة.. حتى مر على نيفٍ وأربعين رقعة بالترتيب، فقال نصر بن علي الجهضمي: أيها المرء أبقي على نفسك من العين. وفي بعض الروايات، حسبك لا تُقتل بالعين.

هذا كيف وصل إلى هذه المرحلة، وهذا المستوى، وهل عُدم ذلك في الأمة؟ أليست العقول هي العقول؟! لابد أن يوجد في الأمة مثل هؤلاء وإن كان الناس يتفاوتون، ولكن هل يُمكن أن يُعدم ذلك في الأمة من أولها إلى أخرها؟! والكلام في هذا يطول، والأخبار فيه كثير، وهي مبهرة، ولا أُطيل بالسرد والتعداد لهذه النماذج، فتراجع في مظانها، لكن أشرع في موضوعنا الذي هو المقصود فأذكر أول ما أذكر من هذه المعالم العشر:

·      الأمر الأول من هذه المعالم العشر: أن هذا الحفظ -أيها الأحبة- يتطلب جهدًا كبيرًا في أوله حينما يتحفظ الإنسان ويتطلب جلوسًا وأوقات، كما أنه يتطلب أيضًا جهدًا لا يقل عن الجهد الأول عبر الأيام والسنين؛ لأن الإنسان لابد أن يُذاكره، وأن يُراجعه، وإلا نسيه، فهذا العمل وأي عمل يقضي به الإنسان أوقاتًا متطاولة لا ينبغي أن يضيع سُدىً، وأن يذهب هباءً، أو أن يكون سببًا لدخول النار كأن يكون لصاحبه قصدٌ سيء من رياءٍ وسمعةٍ، وتعرفون الحديث في أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، ومنهم الرجل الذي تعلم العلم أو قرأ القرآن ليقُال قارئ، فهذا يدخل قبل الزاني والسارق، وشارب الخمر.

جهد كبير وعناء وحبس للنفس عن كثيرٍ من مشتهياتها، لا ينبغي أن يُضيع وأن يفوت، ثم يحصل من جراءه مع العنت الذي يلقاه الإنسان في الدنيا يحصل عنتٌ آخر في الآخرة، فالنية «إنما الأعمال بالنيات» ليكن للإنسان نية في كل أمرٍ يلج فيه.

·      الأمر الثاني من هذه المعالم: أذكر فيه عشرة أمور تعينك على الحفظ أيًا كان هذا الحفظ، سواءً كان حفظ القرآن أو حفظ السُنَّة أو حفظ المتون العلمية عشرة أمور:
الأمر الأول: أن تُراعى أحوال الذهن، فالذهن له والنفس حالات من الإقبال والإدبار، وهذا أمر مدرك حتى في القضايا النفسية من الحزن، والكآبة والارتقاء، وإشراق النفس حينما يحلق الإنسان عاليًا في بعض الأوقات، هي مثل ما يضعون في الرسم البياني هكذا، النفس أحيانًا تهبط، وأحيانًا ترتفع، أحيانًا لا يستطيع أن يقرا مطوية، وأحيانًا يُريد أن يلتهم المجلدات، فهذه الأحوال تمر على النفس، والأوقات تتفاوت، فحينما يكون الذهن مكدودًا مجهدًا فإنه لا يصلح للحفظ.

 ولذلك في الأيام الماضية هذه أيام الاختبارات تأتي رسائل من بعض الإخوان بعضهم يقول: أنا متفوق في دراستي بحيث دائمًا أُحصِل المُعدل الكامل، يعني بعضهم أربعة من أربعة، فيُرسل أحيانًا رسالة في أيام الاختبارات، ويقول: أنا الآن لا أستطيع أن أقرأ شيئًا، فيطلب الدعاء من هذا أو هذا، هو متوقف، لماذا؟
وربما بعضهم يبكي يظن أنه أصابه شيء، والواقع أنه ما أصابه شيء لكن هذا أمرٌ يحصل للنفس حتى إن من لطف الله -عز وجل- بالإنسان أنه إذا غلبه الإجهاد والتعب أو الألم والمرض انفصل عنه العقل، فأغمي عليه وغُيب، فلا يشعر بالآلام هذا من لطف الله -عز وجل- هكذا الذهن إذا أُجهد فإنه لا يحتمل.

 إذا كان الإنسان مشغولًا مشوشًا لعارضٍ من حزنٍ أو فرحٍ أو نحو ذلك، فإنه لا يكون مهيئًا للحفظ، حينما يعود الإنسان من عمله ويُريد أن يحفظ، فإنه قد لا يتمكن ويطول عليه الزمان ولم يُنجز شيئًا يُذكر.

 ولذلك يحتاج الإنسان أن يتحرى الأوقات التي يكون ذهنه فيها متهيئًا للحفظ هذا لا بد منه، وأن يتحرى الأوقات والأمكنة التي تقل فيها الصوارف والشواغل والمشغلات، ما يحفظ في مكان في دكان في السوق، أو يحفظ كما يُقال: في أماكن الأنهار وما إلى ذلك، أو أصوات مزعجة أصوات السيارات أو نحو ذلك، وهذا أمرٌ بين وقد ذكره أهل العلم في كتبهم وشرحوه، ونبهوا عليه، وذكروا الأوقات التي يحسن فيها الحفظ، والأوقات التي يحسن فيها المراجعة، والأوقات التي يحسن فيها الفهم.

 كما يقول الخطيب البغدادي -رحمه الله- أجود الأوقات في الأسحار -يعني للحفظ- ثم بعدها وقت انتصاف النهار، ثم بعد ذلك ذكر أول النهار، وقال: إن حفظ الليل أصلح من حفظ النهار، وذكر أماكن الحفظ، أن الغرف العلوية أفضل من السفلية، وهكذا في كل مكانٍ بعيد عما يُلهي ويشوش الأذهان.

ونهوا المتحفظ أن يحفظ بحضرة النبات والخضرة، وهذا يُقال أيضًا لمن يريد أن يحفظ القرآن، أو يُقال لمن أيضًا يريد أن يفهم في دراسةٍ او نحو ذلك.

أنت بحاجةٍ إلى أن تجمع الذهن؛ ولهذا فإن المُجربين يقولون: كلما كان المكان ليس فيه ما يشوش فهذا أفضل، وكلما كان أضيق فهو أدعى إلى الحفظ.

 ولهذا بالإمكان أن يقترب الإنسان جدًا من الجدار لتكون المساحة التي تراها العين ضئيلة؛ لأن العين تصب في القلب المشاهد التي تراها، والقلب هو محل الحفظ، فيحصل له تشويشٌ وانشغال، فهذه الأشياء التي ترد عليه، أو يضع الجوال بجانبه ويُكلم ويقرأ كل رسالة تصل، فإن ذلك يأخذ شُعبًا من قلبه، فلا يجتمع عليه، فيطول عليه وقت الحفظ؛ ولذلك تجد الإنسان أحيانًا يُريد أن يحفظ شيئًا يسيرًا، فيجلس مدة طويلة بينما يُمكن أن يُحفظ هذا بعشر دقائق، بل لربما يُريد الإنسان أن يقرأ صفحة واحدة ويجلس مدة طويلة من الزمن، وإذا نظر يجد كأنه لم يقرأ الأسطر الأولى، فيرجع، وثانية، وثالثة، لماذا؟ لأنه في مكان غير مهيأ يجلس في الصالة مع من حوله، مع أهله، ويسمع بأذن الحديث وينظر بعينٍ إلى الكتاب، ولا يحصل له كبير مطلوب.

وهكذا قالوا: بأن أوقات الجوع أفضل من أوقات الشبع كما ذكر ابن جماعة أيضًا أن أفضل أوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.

لكن هذه -أيها الأحبة- تختلف من زمان لآخر، ومن شخص لآخر، في حياتنا المعاصرة لاسيما في هذه الإجازة التي أسأل الله -عز وجل- أن يجعلها نافعةً مباركةً ومستغرقةً في محابه ومراضيه، وأن يجعلها سببً للوصول إلى كل خير، وأن يكفينا وإياكم كل شر وفتنة.

أيها الأحبة: نحن حينما نسهر عامة الليل، ثم بعد ذلك نقرأ في كلام الخطيب أو ابن جماعة أن أفضل أوقات الحفظ الأسحار، فنحن نُخطئ حينما نُريد أن نُنزل هذا الكلام على حالنا وواقعنا.

من ينام بعد صلة العشاء فإنه يكون في وقت السحر في غاية اليقظة والنشاط، أما الذي ينام في الواحدة أو ما قارب ذلك، فإنه لا يكاد يستيقظ لصلاة الفجر، فكيف تريد منه أن يحفظ، وهكذا فيما يُقال بعد صلاة الفجر، إذا كان الإنسان يتأخر ويسهر، فإنه يكون في ذلك الوقت في حالٍ من مُغالبة النوم والتعب والإرهاق لا يخفى، لكن ذلك يُقال لمن يُبكر في نومه، وأظن أن وقت الأسحار في زمانهم يُشبه وقت الظهر في زماننا في الإجازات؛ لأن كثيرًا من الطلاب إنما يصحو وقت الظهر، فيكون ذهنه في هذا الوقت في غاية الصفاء، وهكذا تتقلب الأمور وتتغير الأحوال بحسب ما نزاوله من أعمالٍ، وحسب ما يطرأ علينا من أحوال وأمور. على كل حال كل إنسانٍ أدرى بحاله، وما يصلح لمثله.

الأمر الثاني مما يُعين على الحفظ: واختصره لكم اختصارًا التحق بالبرامج الموجودة الناجحة المُجربة، فقد سلك هذا الطريق سالكون قبلك وتخرجوا فيه، فعليك بهذا، ولا تتطبب على نفسك؛ لأن الكثيرين لربما يتحمس ويضع له برنامجًا، ولربما بالألوان ويتحمس في أول الإجازة أو ارتفاع الهمة، وفي كل وقت وفي كل حين يُريد أن يحفظ كذا، والساعة الفلانية يُريد أن...ثم هذه الشُحنة من النشاط والهمة تستمر معه لربما أسبوعًا أو عشرة أيام، أو أكثر، ثم بعد ذلك يبدأ بالهبوط والنزول ويعرض له من العوارض والشواغل -وهو أمير نفسه هو الذي يُقرر-: الآن تستريح، الآن أنت مرهق تنام، الآن تزور فلان، الآن تذهب إلى المكان الفلاني، وهذا يرد عليه في وقت حفظه، وهذا يزوره، وهذا يتصل عليه ونحو ذلك، ويضمحل الوقت ولم يخرج بكبير طائل، وتمضي السنون، ثم يلوح الشيب في مفارقه، وفلان هو فلان الذي عرفناه قبل عشر سنوات، وقبل عشرين سنة، ويأتي من هم في سن أولاده، ويحصلون ويحفظون أضعاف أضعاف ما يحفظ.

ولذلك أقول، اختصر على نفسك الطريق تريد حفظ القرآن أدخل في برنامج جيد من هذه الحلقات مُجرب معروف جاد سواءً في الإجازة أو في غير الإجازة، في البرامج المكثفة أو في غير البرامج المكثفة ضع لك خطة في هذه الإجازة خمسة أجزاء وهكذا، تريد تحفظ المتون قل:
في هذه الإجازة سأحفظ المتن الفلاني, والفلاني، والفلاني، في الإجازة القادمة كذا وكذا وكذا، في برامج موجودة ما عليك إلا أن تسجل فيها، ستجد نفسك بعد خمس سنوات قد حفظت كثيرًا من كتب العلم في السُنَّة وغيرها من المختصرات في العلوم المتنوعة، هذا هو الطريق باختصار.
أما التطبب والحماس والجدول الذي بالألوان كل هذا عما قريب يتلاشى.

واسأل من له خُبرٌ بما
 
عند الورى من كثرة الجولان
  

يا ما رأينا من الناس، ويا ما رأينا من المتحمسين عبر سنين، وفي كل مرة نلقاه أُريدك في موضوع خاص، ثم يسأل نفس السؤال الذي يسأل عنه دائمًا قبل سنين، مُتخرج من كلية الشريعة قبل عشر سنوات ولا يزال يسأل أريد برنامج أبدأ من الصفر أن الآن مصمم وهكذا، ثم بعد ذلك يصل إلى مرحلة إحباط ويأس، ويشعر أن هذا الأمر بعيد المنال لا يمكن أن يُحصل، وقد سمعت بعضهم خرج عن طوره في بعض المرات أو قال: (هذه أشياء مثالية، وهذه أشياء لا يُمكن..)، مثالية بالنسبة لك لكن الذين دخلوا في هذه البرامج حَصَّلوا هذا. نحن نرى من حفظوا الكتب الستة، من حفظوا كثيرًا من متون العلم، وقد رأيت اطفالًا في بعض البلاد المجاورة رأيتهم يحفظون أشياء يطول الوقت بتعدادها، وهم يسردون حتى إنك تتعجب كيف يتمكن إنسان في هذا السن الصغير أن يجمع ذلك في قلبه.

 على كل حال أقول: هذا من أنفع الأشياء والحمد لله هذه البرامج موجودة، وهي تتطور وتنتقل من حالٍ إلى حالٍ أحسن منها، أما حفظ المتون، فتوجد برامج كثيرة هنا وهناك، وحديثنا هذا في هذا الطرح الذي أطرحه أظنه جديدًا ولم أسمعه قبل ذلك، ولكن أظنه نافع ومفيد، وهي فكرة لعلها تنفع قابلة للمناقشة والحوار، والتفكير، والتأمل، لكن يُمكن لكل واحدٍ منا إذا رجع أن يُقلب النظر ويُفكر بعيدًا عن الحماس والعاطفة، ثم بعد ذلك يُقرر بنفسه.

أمرٌ ثالث مما يتعلق بالأمور المعينة على الحفظ: هو أن يكون لنا فقه في نظرنا، ومراعاتنا، ومعالجتنا لأحوال الأذهان.
الآن -أيها الأحبة- أي عضو من أعضاء الإنسان إذا تُرك يعني الآن إذا وضع إنسان على السرير مدةً طويلة ما يتحرك ما الذي يحصل لأعضائه؟ تضعف ولربما تتكلس عظامه، ولا يستطيع أن يثني رجله ولا يده، ولربما أيضًا يحصل وهنٌ لأجهزته الداخلية، الرئة، القلب وما إلى ذلك، وهذا معروف، إذا كان الإنسان لا يتحرك يجلس شهورًا في مكانٍ لا يتحرك، فإن ذلك يوهنه، ويقضي على عافيته، وتتولد له من العلل والأوصاب أضعاف ما أقعده في أول أمره، فالذهن إذا تُرك من غير معالجة، فإنه يحصل له شيءٌ من ذلك حتى يصير إلى حالٍ من البلادة، هذا في الحفظ وفي الفهم.

 لكن لما كان الحديث الآن عن الحفظ نقول: نحتاج إلى شيءٍ من الفقه، الذهن إذا كان لم يعتد على الحفظ فإنه يتعب في أول أمره كثيرًا؛ لذلك أقول للإخوان: عادةً في بداية البرامج التي يلتحقون فيها برامج حفظ القرآن، الدورات المكثفة، كثير من الذين يلتحقون بهذه البرامج يتساقطون في الأسبوع الأول، ويشعرون أنهم دخلوا في أمرٍ لا طاقة لهم به، ولا قدرة لهم عليه.. لو صبروا لحصَّلوا وظفروا بإذن الله -عز وجل-. ففي البداية الذهن بطئ الحركة لم يعتد واسألوا المُجربين، ثم ما يلبث حتى يشتد ويقوى، فإذا صبر الإنسان وواصل، فإن الذهن يتوقد حتى إنه يستطيع أن يحفظ الأشياء في ربع المدة التي كان يقضيها، لربما يُطلب منك حينما تلتحق ببرنامج في حفظ الصحيحين مثلًا، أن تحفظ ثماني عشرة صفحة، تجد الكثير ممن يلتحقون بهذا البرنامج في الأسبوع الأول لربما يجلس من بعد الفجر إلى العاشرة أو الحادية عشر ليلًا وهو لا يكاد يُنجز ما طُلب منه هذا في الأسبوع الأول، ولكن بعد مضي أسبوع أو عشرة أيام ستجد أن بعضهم يحفظ ينهي ذلك جميعًا على الظهر أو قبله أو بعده بقليل، هذا شيءٌ مُشاهد.

 ولربما حضر بعضكم في هذه البرامج، وحصل له ما أذكره الآن في الأسبوع الأول، لربما يكون متوترًا، بل وجد من لم يتمكن من الإنجاز في الأسبوع الأول، فأُخرج من البرنامج، فلم يرضَ لنفسه أن يرجع من غير الأمر الذي نهضت همته له، واشتغل به زملاؤه، فبقي لكن مع نفسه استأجر في مكانٍ مجاور واتفق مع أحد المحفظين بصفةٍ شخصية أن يُراجع له، وأن يسمع منه، فجاء وقد حفظ البرنامج في النهاية مع الإصرار والصبر.

التلكؤ والبطء يكون في البداية، لكن بعد ذلك ينطلق الإنسان.

 ولهذا فإن الاستبيانات التي تُوزع على الإخوان لتقيس المقدار الذي يُعطى لهم في كل يوم في الحفظ هي لا تعكس الصورة الحقيقية التي يُمكن أن تُطبق في كل مكان، بل ولا على هؤلاء؛ لأنك عندما توزع هذه في الأسبوع الأول على برنامج الأسبوع الأول، فإنهم قد يرون ذلك كثيرًا لكن حينما تقوى الأذهان -وهو نفس المقدار- بعد مدة يرون أن هذا قليل ويطالبون بالزيادة، وهذا شيء نُشاهده في الدورات المنهجية في حفظ المتون.

 والطريق والحل لمثل هذا من أجل أن لا يعود الذهن إلى حالٍ من الضعف ثانيةً أن يستمر الإنسان دائمًا على الحفظ والمراجعة سائر العام، فلا يُترك حتى يبرد، ثم يرجع الإنسان في الإجازة القادمة ويقول: أُريد أن أحفظ مرة ثانية، فيحتاج إلى دورة جديدة فيها نفس المعاناة السابقة.

 وأيضًا مما يحتاج إلى تلطف وفقه في النظر إلى حال الأذهان وهي قضية ذكرها أهل العلم أنك إن تلكأت في كلمة وأنت تراجع في كتاب الله -عز وجل- أو في شيءٍ من كتب العلم التي تحفظها، فلا يُبادر من يسمع منك بالرد والتنبيه.. لا، انتظر، وحاول مرةً وثانية وثالثة، فإنك إن بادرت أو بُدِرتَ بها فإن الذهن يصدأ، لا يتمكن من الاستحضار والاستخراج، فيكون كليلًا.. فدواءه هو أن يُعصر مرةً بعد مرة حتى يستخرجها ويظفر بها.

الأمر الرابع مما يُعين على الحفظ: هو حاول أن تربط بين الأشياء من جهة المعنى، يعني الأبواب الفقهية مثلًا تجد المياه، الطهارة، ثم بعد ذلك تأتي الصلاة، المواقيت، الأذان، الإقامة، كذا..

كيف رُتبت بهذه الطريقة؟ أربط من أجل أن...، وكذلك في حفظ القرآن، وفي حفظ المتون، الله -تبارك وتعالى- مثلًا ذكر في خاتمة هذه الآية شيئًا يتعلق بالتذكر أو بالتعقل، ثم بعد ذلك التفكر، ثم بعد ذلك التذكر.. مثلًا. فتربط بين هذه الأشياء أن إنسان يعقل الأمور، ثم يتفكر، ثم يحصل له الذكرى.
 ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[1] لربما بعض الناس يصعب عليه حفظها لكن هي مثالٌ لغيرها:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[2] الآن، أنا على دين غير الدين الذي أنتم عليه. ﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[3] الآن أنت تقيمون على الشرك.
﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ[4] في المستقبل لن أتحول إلى دينكم.
﴿وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[5] لن تتحولوا إلى ديني في المستقبل.
﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]
لو نظر الإنسان إليها بهذه الطريقة لا يخلط ولا ينسى، وهكذا أيضًا أحيانًا تكون الكلمة غريبة على الإنسان فيمكن أن يربطها بكلمةٍ مألوفة، أتذكر أننا سافرنا إلى بلد، ولا نعرف الطرق، ولا الأماكن واسم الفندق فيه صعوبة، أتذكر أن اسمه اطلنطي، فقال لي صاحبي: إذا ذهبت تذكر المحيط تذكر اسم الفندق -لاحظ ربط جيد- وأهل العلم عندهم شيء من هذا، ونبهوا عليه.

يروى عن علي -رضي الله عنه- أنه أتى أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- فأمره بشيءٍ من أمره، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أسأل الله الهدى والسداد، أذكر الهدى بهداية الطريق، وأذكر السداد بتسديدات السهم، طبعًا كانوا يزاولون السهام، وهي أمرٌ مألوف عندهم.

وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- البيت المعمور في السماء بحذاء الكعبة، وحرمٌ بحذاء الحرم، وما بين الحرمين حرمٌ يُصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة اسمه الضُراح، وإن نسيت -يقول لسعيد بن جبير- وإن نسيت فاذكر الخيل تضرح، -الخيل مألوفة لهم، وهذه اللفظة بالنسبة للخيل معروفة-، إن نسيت اسم ذلك البيت في السماء الضُراح اذكر الخيل تضرح، وهكذا ينبغي أن نتذكر بعض الأمور.

الأمر الخامس مما يُعين على الحفظ: وهو التفطن للمطعومات والمشروبات.
هناك أشياء لها أثر إيجابي مثل: الزبيب على الريق يقوي الحفظ، اللبان المر.
وهناك أشياء لها أثر سلبي مثل: الحوامض، الحوامض أثرها سلبي على الإنسان، تُضعف حافظته مثل التفاح الحامض، اللبن الحامض، وما أشبه ذلك.
كما أن بعض الأشياء تؤثر أيضًا مثل الشبع، فالحفظ أوقات الجوع أفضل وأنجع من الحفظ أوقات الشبع.

الأمر السادس مما يُعين على الحفظ: أنه مهما استطعت أن يجتمع في الحفظ (اللسان والقلب والعين والأذن) فتتواطأ هذه جميعًا على التحصيل، فتحفظ بهذه الطريقة في أقصر مدة، وهذا الذي نطبقه الآن في دورات حفظ المتون:

1- الإخوان يعرضون شاشة مثل هذه فيها المقطع أربعة أبيات أو أربعة أسطر.
2- ثم بعد ذلك تُردد هذه بصوتٍ جيد بطريقةٍ ترتاح إليها النفوس، يُردد وهم يُرددون معه مرات معدودة محسوبة.
3- ثم بعد ذلك ينقطع الذي أمامهم من الكتابة، فيبقى الصوت فيرددون معه.
4- ثم ينقطع الصوت، فيبقون يرددون هم.
5- ثم بعد ذلك يتفرقون كل خمسة عندهم مجموعة مثلًا يرددون معًا، فأول مجموعة تنتهي أولًا تُحسب لها نقاط، فيحصل منافسة، فيبدؤون يسمعون، هذه مجموعة انتهت اليوم هي الأولى، وهذه الثانية، وهذه الثالثة، وهذه الرابعة، فيعزمون في اليوم الثاني كل مجموعة تعزم على أن تُنجز أولًا.




الأمر السابع مما يُعين على الحفظ: هو تقوى الله، وهذا أمرٌ لا يخفى.

شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي
 
فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
  
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ
 
ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
  

القلب يحتاج إلى أن يُفرغ، فيكون محلا صالحا للعلم، فإذا كان القلب مليئًا بالأدناس، والمدنسات، والأرجاس، فإن ذلك يحول بينه وبين العلم.

الأمر الثامن مما يُعين على الحفظ: وهو العلم بهذا العلم، وكلام أهل العلم في ذلك كثير، وقد جاء عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وجاء هذا عن جماعة من السلف رضي الله عنهم.

التاسع مما يُعين على الحفظ: اعتماد نُسخة واحدة يحفظ منها ويُراجع؛ ليرتسم ذلك في ذهنه، سواءً في حفظ القرآن أو كان في حفظ المتون نسخة واحدة من أجل أن يكون ذلك كالمطبوع في القلب، كأنك تتصور الأسطر، وأن بداية الصفحة هي الكلمة الفلانية، ويأتي بعدها كذا.. فهذا أدعى إلى الضبط بإذن الله.

العاشر مما يُعين على الحفظ: وهو فهم المعنى إن استطعت أن تفهم المعاني فهذا أعون لك الحفظ.

·      ثالثًا من المعالم: أن تضع خطة محددة واضحة المعالم تسير عليها في هذا الطريق، وهذه الخطة ينبغي أن يلحظ فيها جملة من الأمور أذكر منها سبعة، والأفضل أن هذه الخطة والخطط في العلم ألا يضعها الإنسان لنفسه لأنه توجد برامج تقوم يُشرف عليها من له شيء من التجربة، ثم بعد ذلك يلتحق بها الناس.

 أول هذه الأمور التي ينبغي التفطن لها: هو أن نتذكر أن العلوم أو الفنون، وما وضع فيها من المصنفات والكتب والمختصرات من منظومٍ ومنثور على ثلاثة مستويات:

الأول: للمبتدئين.
الثاني: للمتوسطين.
الثالث: للمتقدمين.

وهذا أمرٌ معروف، إذا كان الأمر كذلك فما هو المطلوب؟
عامة البرامج التي تُطرح للناس عادةً، ما الذي يحصل فيها؟

الذي يحصل فيها أنه يحصل عصف ذهني كما يقول الإداريون:
ماذا نطرح في هذه الدورة في هذه الإجازة؟
ثم يكتبون مجموعة من المتون ويتفقون عليها، ثم ينزل الإعلان ويُصرح لها، ثم بعد ذلك يلتحق بها الطلاب ويبدؤون يحفظون.

طيب الخطوة التالية في برنامجكم ما هي؟
قالوا: هـه؟! .. هذه إلى الآن ما بعد، إن شاء الله تعالى بعدين، قبل الإجازة القادمة إن شاء الله نُفكر فيها.

 والطلاب هؤلاء الذين التحقوا بهذا البرنامج لو سألتهم ما هي الخطة العلمية لك؟ التحقت في هذه الدورة لكن ماذا بعدها؟
يقول: والله إلى الآن أنا التحقت في هذه الدورة، ولا أدري ماذا يكون بعد ذلك.

 هذا خطأ، نعم هم يشتغلون بخير لكن هذا يُطول الطريق، هذا الطريق الذي يُمكن أن يتخبط فيه الإنسان يُمكن أن يُختصر له اختصارًا.

 فأقول: يُفترض أن تكون هذه الخطة كاملة في المستوى الأول، والثاني، والثالث، فيعرف الطالب المتون التي ستُطرح في هذه الخطة، مثل الدراسة في الجامعة، المقرارات تنزل في كل مرة، ويسجل منها ما يُريد.

 فهذا البرنامج هل المراد منه -وانتبهوا لهذه جيدًا- أن الطلاب يحفظون المستوى الأول كاملًا، ثم المستوى الثاني كاملًا، ثم المستوى الثالث كاملًا، ثم ماذا تكون النتيجة بعد ذلك؟ النتيجة بعد ذلك أننا جعلنا هؤلاء يحفظون في كل فن ثلاثة متون، وهذا لم يقل به أحد فيما أعلم من أهل العلم، أهل العلم عادةً يقولون: على طالب العلم أن يحفظ في كل فنٍ متنًا، لكن لما كنا نسير من غير خطة علمية، فإننا نسير هكذا في شيءٍ من البرنامج الضبابي، ولا يدري الواحد منا إلى أي شيءٍ يُفضي به ذلك، إلى أين سينتهي، ما هو المنتهى في هذا البرنامج؟ ليس هناك شيءٌ في الأذهان.

ولذلك فإن الطريقة الصحيحة فيما أظن هي أن نقول: البرنامج هذا هو في مراحله الثلاث، وكل إنسان له حاله وظروفه، وتخصصه واشتغاله وقدراته أيضًا العقلية الحافظة القوية أو الضعيفة، فماذا تريد؟
هذا إنسان يقول: أنا غير متخصص في العلوم الشرعية لكن أريد أحفظ بعض المتون للمبتدئين، أُريد أحفظ الأربعين النووية، أُريد أحفظ كتاب الأصول الثلاثة مثلًا أو نحو ذلك.. لا بأس.

وذاك إنسان يقول: أنا عندي حافظة قوية متوقدة، وأنا طالب علم متفرغ، ومتخصص في العلوم الشرعية، وأُريد أن أتقن في جميعها.. فهل من الصحيح -أيها الأحبة- أن نقول له: احفظ عمدة الأحكام في الحديث، ثم بلوغ المرام، ثم المنتقى منتقى الأخبار، وفي أصول الفقه احفظ الورقات، واحفظ مراقي السعود مثلًا، وفي مصطلح الحديث احفظ البيقونية، واحفظ النخبة، واحفظ الألفية للسيوطي أو العراقي، ونقول له: في النحو احفظ الأجرومية، واحفظ مُلحة الإعراب، واحفظ ألفية ابن مالك.. كل هذا؟!

إذا حفظ ألفية ابن مالك، فما حاجته في الأجرومية أو مُلحة الإعراب؟!
وإذا حفظ مراقي السعود في أصول الفقه، فما حاجته بالورقات؟!

 فلذلك يمكن أن يختار طالب العلم، قد يقول بعضهم: أنا أُريد أن أصل إلى المستوى الأخير في فنٍ واحد، والباقي أحفظ في المستوى الأول فقط، لكن يكون عنده تصور ماذا يريد في النهاية، فيقول أنا مثلًا في الحديث أُريد أن أحفظ الألفية للعراقي أو للسيوطي، ولا أُريد أن أحفظ ما قبلها، لكن في العلوم الأخرى أُريد أن أحفظ متنًا مختصرًا في المستوى الأول فقط. لكن الطريقة المطروحة عادةً التي يلتحق بها الطلاب هي الإعلان عن المستوى الأول مثلًا، ثم يلتحقون، ثم بعد ذلك يحصل عصف ذهني السنة القادمة للقائمين على البرنامج، ثم يطرحون مستوى آخر، ثم يلتحق به الطلاب، ثم عصف ذهني بعده وتطرح أشياء، ثم يلتحقون بهذا البرنامج.

 فنجد أنهم قد حفظوا... ولا أعني بهذا أن الإنسان يبدأ بالكتب المتقدمة، يعني لو أنه قال: أنا أُريد أن أحفظ الكتب التي تكون في المستوى الثالث ما أريد أن أكرر في الحفظ، ليس معنى ذلك أنه يبتدأ بها في طلب العلم لا، يستشرح ما قبلها ولكنه يدخر الحفظ لتلك؛ لأنه يقفز ويختصر المراحل هذا ما يقول به أحد.

 أنا أتحدث عن الحفظ فقط؛ لأن القضية -أيها الأحبة- ليست قضية حفظ فقط، وإنما لها متطلبات أخرى كما سيأتي فيما يتصل بالمراجعة؛ ولهذا فإن بعض هؤلاء الذين حفظوا من غير خطةٍ صحيحة يضطرون في النهاية إلى النسيان، يقول: أنا أُريد أن أنسى نظم الورقات مثلًا أو نظم النخبة، أو أُريد أن أنسى المُلحة؛ لأني قد حفظت الألفية. لكن نحن لا، احفظ تحفة الأطفال في التجويد، نعم حفظتها، ثم نُفكر ماذا نطرح له في المرة القادمة؟
هل القضية هي إشغال؟ ثم نقول له: احفظ الجذرية، فحفظ الجذرية مع تحفة الأطفال! كان بالإمكان أن يحفظ الجذرية وانتهينا.

ولذلك أقول التنبيه الثاني فيما يتعلق بوضع الخطة: أن الحفظ قد يسهل، لكن العبء الأكبر هو المراجعة التي ينبغي أن تلازمك سائر العمر، متى ستراجع إذا كنت حفظت القرآن، وحفظت مجموعة من المتون؟ فقد تستغرق منك المراجعة اليومية الوقت؛ لأنك تراجع من القرآن ثلاثة أجزاء أو أربعة أو خمسة في اليوم قد تحتاج منك مع متونٍ حفظتها في الحديث وفي غيره قد تحتاج منك إلى أربع ساعات، وأعرف من يُراجع في اليوم أربع ساعات، واليوم بعض الناس لو قلت له: اقرأ في اليوم ساعتين، قال: هذا مُبالغ من المبالغين، قراءة في طلب العلم ساعتين؟! يقول: مبالغ هذا. فلابد أن نحسب حسابًا لقضية المراجعة، ووقت المراجعة، فالمراجعة مملة! الإنسان عادةً يتهيأ للأمور التي تكون جديدةً طارفةً، أما الأمور التي يُعيدها فإنه يستثقلها عادةً، فلابد من أن نحسب حسابًا لذلك، ليست المشكلة في الحفظ، وإنما المشكلة في المراجعة.

أمرٌ ثالث مما يتصل بوضع الخطة العلمية في الحفظ: وهو أن العادة أن حفظ النظم أسهل من حفظ النثر، فينبغي على طالب العلم أن ينظر في الأسهل بالنسبة إليه؛ لأن الناس يتفاوتون فإن كان ذلك هو الأسهل إليه، فإنه يُمكن أن يُقدمه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- «ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا» ولكن يُعتبر حفظ المنظومات آفةً؛ ولهذا يحتاج الإنسان أن يرجح:

 الآفة الأولى: وهي أنك حين تنسى في النظم يصعب أن تستحضر المعنى يفوت غالبًا.

وأما بالنسبة للنثر فإنك إن نسيت العبارة أو الجملة أتيت بها بمعناها يعني في أقل أحوالك تكون مستظهرًا؛ لهذا نقول: للذين يثبطون طلاب العلم أحيانًا عن حفظ الصحيحين والالتحاق بالبرامج أو حفظ كتب السُنَّة، ويقولون: هذه مدة قصيرة أو يقولون ما يقولون، نقول لهم: لو لم يكن لهؤلاء إلا قضاء الأوقات -التي لربما تُقضى في النوم- مع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لربما يموت كثير من طلاب العلم ولم يقرأ هذه الكتب مجرد قراءة، فهذا يرددها حتى يستظهر، افترض أنه لم يحفظ يستظهر هذا خير كثير، فالنثر يمكن أن يستظهره بالترداد إن نسي النص جاء بالمعنى، ولكن النظم قد لا يستطيع أن يورد ما يُريد إذا نسي البيت، هذه آفة وهي معروفة.

والآفة الثانية في النظم: وهي أن النظم كما تعلمون يحتاج إلى أوزان وقوافي ومثل هذا قد يُضطر معه إلى شيءٍ من حشو الكلام؛ ليستقيم له النظم، وقد يضطر معه إلى لونٍ من التعسف والاختصار من أجل أن يستقيم له النظم، فيصعب على من نظر فيه، فيحتاج إلى فك وشرح، فهذا لونُ من المعاناة وهو وإن كان أسهل في الحفظ إلا أن فيه ما فيه من هذه الأمور.

الأمر الرابع الذي يحتاج الواحد منا أن يتفطن له في وضع الخطة للحفظ: هو أن بعض المتون شديدة الاختصار جدًا تكثر فيها الضمائر، ولربما أتت صعبة العبارة فهل ذلك يكون هو الأولى والأفضل في الحفظ؟ مع أن هناك من المتون ما هو أسهل ولا يحتاج إلى جهدٍ كبير من أجل حفظه وفهمه، المتون الصعبة كثيرة الضمائر صعبةٌ في حفظها، صعبةٌ في فهمها، صعبةٌ في مراجعتها، بل هي أثقل ما تكون على طالب العلم.. أعرف من تحولت تلك المتون أوقات المراجعة التي يراجعونها فيها إلى حالٍ من الاكتئاب، فإذا كان الإنسان في الأعمال الصالحة كما قال الشاطبي -رحمه الله-: بأن مقصود الشارع من مقاصده الاستمرار والدوام على العبادة، فالعبد لا يُقبل على أعمالٍ من النوافل لربما تورثه كراهية العبادة، يُثقل على نفسه ويشق عليها بألوان من النوافل، ثم بعد ذلك لربما يستثقل هذه العبادة ويكرهها، فكيف بحفظ المتون، فيختار الإنسان المتن الأسهل الأيسر في حفظه ومراجعته وفهمه.

وأمرٌ خامس نحتاج أن نلحظه في وضع الخطة: وهو أن بعض العلوم قد يكفي فيه الفهم ما يحتاج إلى حفظ لسهولته ووضوحه.

والأمر السادس في الخطة: وهو في غاية الأهمية -وأرجو أن تنتبهوا له جيدًا- وهو أن العلوم الشرعية مترابطة، فنحن نجد في هذه المتون العلمية أبوابًا متشابهة: تجد الناسخ والمنسوخ في علوم الحديث، وفي علوم القرآن، وفي أصول الفقه، تجد في منظومة الزمزمي مثلًا في علوم القرآن أشياء كثيرة من التجويد، وتجدها أيضًا في الجذرية وفي تحفة الأطفال، وقل مثل ذلك في أبواب من اللغة الحقيقة، المجاز، المترادف إلى غير ذلك، تجدها في أصول الفقه، وتجدها في علوم القرآن، وتجدها أيضًا لو حفظت أشياء في اللغة.

 فهل يحسن بطالب العلم أن يحفظ هذه جميعًا حينما يمر بها في كل فن؟ في كل متن؟
أو أنه يوفر على نفسه جهدًا في الحفظ، وجهدًا في المراجعة، فيحفظ إن كانت له خطة علمية يحفظ في كل فنٍ ما هو أصليٌ فيه، وما كان مستعارًا من فنٍ آخر فإنه يُحفظ في ذلك الفن..
يعني: أحفظ منظومة الزمزمي مثلًا في علوم القرآن فجاءتني أبواب في التجويد لماذا أحفظها هنا؟! أحفظها في الجذرية.
أبواب في علوم القرآن: العام والخاص، المطلق والمقيد، المنطوق والمفهوم إلى آخره لماذا أحفظها في علوم القرآن؟! أنا سأحفظها في أصول الفقه، لماذا التكرار؟!

وإذا طبقت هذا فإنك ستختصر على نفسك كثيرًا في طريقك في الطلب والتحصيل، والحفظ والمراجعة، ويسهل عليك كثيرٌ من الأمر الذي شق على غيرك.

 لكن الذي يمنع من هذا أحيانًا الجهل أو عدم التبصر في الأمور أو عدم التخطيط لها، الإنسان لم يتفطن يقول: ما تفطنت لهذا، وأحيانًا يمنع منها الحماس والاندفاع في أول الأمر، وهذا يكون عادةً عند الشباب في أولهم، يُريد أن يحفظ المنظومة من أول بيت إلى أخر بيت وإن كانت ألف بيت أو أكثر، عنده عزيمة قوية، لكن لو حسب الحسابات فيما بعد متى سيراجع؟ فإنه قد يغير رأيه، ولكنه لا يتغير الآن، قد تغيره الأيام والليالي، وقد تذكرون هذا الكلام في يومٍ من دهركم، تغيره الأيام والليالي؛ لذلك يحسن بالإنسان أن ينظر في هذه الأشياء.

 والذي تتميز به هذه البرامج التي نطرحها الآن ولا أعلمها موجودة في مكانٍ آخر بهذه الطريقة هو أننا نُميز -وإن كنا في البدايات- نُميز ما يُحفظ، وسيأتي تطبيق لهذا بإذن الله -عز وجل-:
- ما الذي يحسُن بك أن تحفظه؟
- وما الذي لا يُحفظ؟
- وما الذي يكون بالأهمية؟
- وما الذي يمكن أن يحفظ في فنٍ آخر؟ كل هذا بعلامات معينة رموز.

 ولذلك أقول هذه هي القضية السابعة من الملحوظات: أن لا يلزم أن نحفظ المتن من أوله إلى أخره، ونراعي في الحفظ الأمور الأربعة التي ذكرتها مجملةً.

 أشياء أحيانًا تكون هي غلط في الاعتقاد أو في العلم وضمن النظم لماذا أحفظها؟
أحيانًا خلل في العقيدة في هذا النظم، الناظم أشعري، وجاءت أبيات تتعلق بقضية من القضايا الكلام غير صحيح فلماذا نحفظ؟

وهناك أشياء لا فائدة من حفظها مثل الحشو الذي في ثنايا المنظومة أحيانًا، أو المقدمة أو الخاتمة، فلماذا أحفظ عشرة أبيات في المقدمة مثلًا في كل فن، والخاتمة؟!

 وهناك نوعٌ ثالث وهو ما يكون بالنسبة إليك تحصيل حاصل، يعني هذه القضية مفهومة، ما تحتاج إلى حفظ أربعة أبيات في هذه الجزئية، ليست هناك تقاسيم، ولا أنواع، ولا ضوابط يُمكن أن تُنسى، قضية بدهية أو معروفة، فلماذا تحفظ؟ اترك هذه الأبيات.

وأحيانًا تكون هذه القضية تُحفظ في فنٍ آخر كما قلت فدعها للفن الآخر، فما يبقى عندك فيما بعد أحيانًا في بعض المنظومات إلا القليل مما يمكن أن يحفظ.

·      رابعًا من هذه المعالم: ينبغي أن نبدأ بحفظ القرآن أولًا، وهذه قضية لا أحتاج أن أطيل فيها، نقول هذا لمن يُريد أن يحفظ المتون نوصيهم أن يحفظوا القرآن أولًا، لكن بالنسبة لمن يريدون أن يحصَّلوا في العلوم الشرعية، وأن يتفقهوا، وأن يدرسوا وكذا هؤلاء يسمعون أحيانًا هذه العبارة القرآن أولًا، ولكن هذه العبارة بهذا الإطلاق تحتاج إلى شيءٍ من المناقشة والتفصيل.

فحفظ القرآن يستغرق عليه ساعتين أو ثلاث ساعات أو نحو ذلك، وماذا يفعل بعشرين ساعة؟ فنقول: يتفقه واحضر في دروس العلم ومجالس العلم وتعلم، ويُفرق بين الصغير الناشئ -الصبي- وبين غيره ممن يحتاج إلى أن يتفقه، وأن يعرف الأحكام التي تتعلق به.

 لكن بالنسبة لحفظ المتون نقول: بكل اطمئنان إن الأولى والأجدر بالإنسان أن يتم حفظ القرآن أولًا، ثم بعد ذلك يشتغل بالمتون؛ ولهذا أخرنا هذه البرامج في حفظ المتون قصدًا من أجل أن تخرج الحلقات الجادة التي بدأت ولله الحمد تؤتي ثمارها بشكلٍ واضح أن تخرج دفعات من طلاب العلم، بعد ذلك يمكن أن يبسط لهم برنامج علمي في الحفظ، لكن منذ البداية أكثر طلاب العلم لا يحفظون القرآن، ثم نأتي ببرنامج لحفظ المتون، هذا في نظري غير جيد.

·      خامسًا من المعالم: ينبغي أو يحسن لطالب العلم أن يحفظ في كل فنٍ متنًا إن تيسر، ويراعي فيه ما سبق، لكن يحذر أن يكون هذا الحفظ والاشتغال صارفًا عن مراجعته للقرآن، لابد من برنامج من شريف أوقاتك للقرآن. أن تردد كلام البشر في متون في أصول الفقه أو النحو أو نحو ذلك، وتنسى القرآن فهذا الكلام غير صحيح.

·      سادسًا من المعالم: بعد حفظك للقرآن تبدأ بالأهم، والعلماء -رحمهم الله- لم يتفقوا على شيءٍ في ذلك، - النووي رحمه- يرى أن أهم العلوم الفقه والنحو، ثم الحديث والأصول، ثم الباقي على ما تيسر.

ابن جماعة يرى أن الأولى الاشتغال بالعلوم المتعلقة في القرآن من التفسير وسائر علومه، كذلك في علوم الحديث في الحديث وعلومه.

الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- يرى أن الترتيب بالنسبة للحديث وعلومه أن يبدأ أولًا بالصحيحين، ثم السُنن كالسُنن الأربع، وصحيح ابن خزيمة، وابن حبان، والسُنن الكبرى للبيهقي، ثم الكتب الجامعة المؤلفة في الأحكام كموطأ مالك، كتب ابن جريج، ابن أبي عروبة، وسعيد بن منصور، وعبد الرزاق بن أبي شيبة، ثم كتب العلل، ثم يشتغل بكتب رجال الحديث وتراجمهم وأحوالهم، ثم يقرأ في كتب التاريخ وغيرها.

على كل حال العلماء يبدو والله تعالى أعلم أن أنظارهم تتفاوت، وهذا أمر لا غرابة فيه، والإنسان عادةً إذا تخصص في فن فإن ذلك الفن يستحوذ على جهده وتفكيره، ولربما يرى أنه أولى من غيره وأجدى وأنفع.

·      سابعًا من هذه المعالم: وهو أنه ينبغي أن لا نكتفي بالحفظ بل نستشرح ما حفظناه؛ ولذلك يحسُن أن يعقبه مباشرةً شرحٌ لهذه المتون، ونحن في هذه البرامج عندنا ما يوازيها التي هي الدورات العلمية المنهجية التي تُشرح فيها الكتب والعلوم، ويُعطى للإخوان في الأصل الذين يحفظون يُختار لهم، ويُعطى لهم من أسهل الشروح المسموعة بلا تطويل، ولا استطراد، ولا إغراق في الخلاف، ويُعطى لهم من أسهل الشروح المقروءة، نقول لهم: اقرؤوا وتختبرون فيها، لا يكون الحفظ من غير فهم، مع حضور الدورات.

ولذلك نحن ننوي إن شاء الله أن الشهادات التي نُعطيها للإخوان شهادات حفظ، والأسانيد التي نعطيهم في كل كتابٍ يحفظونه أن يُبين فيه قد حفظ، واستشرح أو حفظ فقط، فلابد من الفهم.

·      ثامنًا من المعالم: لابد من المراجعة والمذاكرة من أجل أن يثبت الحفظ وإلا فإنه سينسى، الآن -أيها الأحباء- هذا الكأس إذا ملأته بالماء ووضعته بالشمس لا محالة ولا بعد سنة ستأتي في يوم من الدهر وقد نضب ما فيه من الماء، صب ما شئت من الماء في هذا المكان في المسجد في داخله أو في خارجه سيأتي يومٌ وقد نضب، فالأذهان هكذا يذهب ويزول ويتلاشى ما حفظه الإنسان، فيحتاج إلى مراجعة.

الزهري إمامٌ في الحفظ وكان يقول: آفة العلم النسيان وقلة المذاكرة، ولما قالوا للأصمعي الذي ذكرته لكم طرفًا من خبره: كيف حفظت ونسوا؟ قال: درست وتركوا، هو يحفظ من أول مرة، درست وتركوا؛ لذلك كانوا يوصون بالمراجعة، والمذاكرة والمرافقة في الدرس.

وقد جاء عن الخليل ابن أحمد -رحمه الله- كن على مُدارسة ما في صدرك أحرصَ منك على مدارسة ما في كتبك.

وكان الزهري يرجع إلى منزله وقد سمع حديثًا كثيرًا، فيعيده على جاريةً له من أوله إلى أخره كما سمعه، ويقول: لا، إنما أردت أن أحفظه، يقول: ليس القصد أن ألقي لها درسًا أو أن أحدثها.

وجاء عن عبد الله بن أحمد -رحمه الله- يقول: لما قدم أبو زُرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: ما صليت غير الفرائض استأثرت بمذاكرة أبي زُرعة على نوافلي.

وكان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكُتاب، فيحدثهم لئلا ينسى حديثه، الكُتاب الذي يتعلمون فيه مبادئ من القرآن، والقراءة، والكتابة.

وكان عطاء الخُراساني إذا لم يجد أحدًا أتى المساكين، فحدثهم يُريد بذلك الحفظ.

وجاء عن إبراهيم النخعي إذا سمعت حديثًا فحدث به حين تسمعه، ولو أن تحدث به من لا يشتهيه، فإنه يكون كالكتاب في صدرك.

لكن نحن نحضر الدرس أو نقرأ أو نحفظ، ثم يكون أخر العهد؛ ولذلك تجد الطلاب يدرسون في الكليات الشرعية، وكثير منهم يتخرجون موظفين كُتاب ليسوا بعلماء، والسبب أنه يحضر الدرس من غير أي تحضير، ولا يعرف ماذا سيُقال، ثم لا يُراجع، فإذا جاء وقت الاختبار قرأ في المذكرات، ثم كان أخر العهد. كيف يتخرج عالمًا وهو بهذه المثابة ؟!

·      تاسعًا من هذه المعالم: الحفظ الحقيقي هو الإتقان، كما جاء عن الإمام أحمد، وعبد الرحمن بن مهدي، وقد جعل ابن المنادي في كتابه (متشابه القرآن) الحفظ الحقيقي الذي يعتبره من الحفظ على مرتبتين:

الأول/ الماهر: وجعل علامته الإتقان وسرعة الرجوع عن الخطأ، أو أنه يتفطن لخطأه مباشرةً، فيرجع أو إذا تجاوز رجع.

والنوع الثاني/ هو المُتماهر: هو الذي يُخطئ ولا ينتبه، أو ينتبه ويحاول أن يرجع ولا يأتي به على وجه الصواب. هذا المرتبة الثانية مُتماهر، يقول: وما عدا هؤلاء فمتحفظين وليسوا بحُفاظ.

·      العاشر من هذه المعالم والأخير: حذاري أن يكون ما حفظته سببًا لشيءٍ من الأدواء المردية كالعُجب، والغرور، والتعاظم في النفس، ويرى أنه قد حفظ أشياء ولربما بعضهم يتكلم عن بعض أهل العلم أنهم لم يحفظوا كما حفظ، كم من إنسانٍ حفظ كثيرًا، ولكنه لم يكن بعد ذلك شيئًا يذكر، فليست العبرة بأن يحفظ الإنسان، وإنما العبرة بتوفيق الله -تبارك وتعالى- فوق كل شيء، والعبد يسأل ربه أن يسدده، وأن يهديه، وأن يصلح قلبه وعمله ونيته، ولا يلتفت إلى نفسه، ولا يتعاظم، ومن حصل له شيءٌ من ذلك، فلينظر في تراجم الأئمة الحفاظ كيف كانوا يحفظون، الواحد منهم آية في الحفظ؛ لئلا يغتر.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه





[1] -  [الكافرون:1-6]
[2] -  [الكافرون:1-2]
[3] -  [الكافرون:3]
[4] -  [الكافرون:4]
[5] -  [الكافرون:5]
[6] -  [الكافرون:6]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق